مجزرة الجديدة ذلك الكابوس المفزع .. المندبة كبيرة بزاف و نحن كلنا مجرمون !!

نعرف ان منطقة دكالة التي اشتهرت ذات يوم برجالاتها الشجعان الذين قاوموا المستعمر البرتغالي الغاشم و بعدها بالعلماء و كبار المشايخ و الفقهاء و حفظة كتاب الله ثم ب “الكرعة” و باقي أنواع الخضر و الفواكه التي وجدت في مروج المنطقة خصوبة لا توجد في غيرها من مناطق الوطن.
حتى وقت قريب لم يكن غالبية المغاربة يعرفون “سبت سايس” إلا بعد أن تناهى لعلمهم خبر المجزرة البشعة التي راح ضحيتها عشرة أشخاص من قبيلة واحدة بعدما قضوا نحبهم ذبحا من طرف شخص أربعيني أطلقت عليه عديد المنابر لقب “السفاح المختل”.
جريمة لم يكن أحد يتوقعها ، شباب الدوار استفاقوا باكرا و توجهوا نحو السوق الأسبوعي و عادوا على وقع خبر تناقل بين سماعات هواتفهم يفيد بأن “الطايح أكثر من النايض” في دوارهم الذي همشته الجغرافيا و بعدها سياسات الحكومات المتعاقبة.
ما وقع بضواحي الجديدة يجعلنا نطرح سؤالا جوهريا يتطلب تحليلا أعمق من مجرد “ساطور” و سيف استعملهما الجاني لتصفية عشرة أشخاص بطريقة بشعة ، فمن إذن يتحمل مسؤولية ما وقع و مسؤولية عشرات الأرواح التي تزهق بنفس الطريقة و بأماكن عدة من هذا الوطن؟
شخصيا أعرف المنطقة التي وقعت فيها الجريمة بشكل جيد بحكم انتماءات أصولي لها و بحكم زياراتي الدائمة لها و لم أجد في خبر المجزرة غرابة بقدر ما استغربت لبعض العناوين الفضفاضة التي أكدت أن إغلاق “معتقل” بويا عمر هو السبب في هاته الجريمة مدعين أن القاتل سبق و تم إيداعه بالضريح المذكور قبل أن يعود لدكالة بعد أن تم إغلاقه بقرار من الوزير الوردي.
أنا هنا لا أدافع عن الوردي و لا أتحامل على الضريح لكن لنكن صرحاء و واقعيين بعض الشيء ، في ذاك الدوار و باقي دواوير دكالة المعروفة كالغنادرة و اولاد غانم و الغوالمة و الغراودة و الحمامنة و المناقرة و الغرباويين و ولاد بن الشاوي و ولاد ربيعة و غيرها من القبائل المعروفة لا شيء يبشر بالخير أو يوحي بغد أفضل.
هناك في تلك الدواوير التي يتناقص عدد ساكنتها كل يوم بفعل القدر المحتوم أو الهجرة القروية للجديدة و البيضاء بحثا عن تحسين سبل العيش أو بغربة في مدن أخرى طلبا للعلم أو التطبيب ، هناك حيث تنتشر ربطات “الكيف” بين شيب و شباب القرى أكثر من انتشار العشب في حقولها التي فقدت خصوبتها مع مرور الزمان.
أتذكر أخر مرة زرت فيها المنطقة فتفاجأت لمنظر أطفال لا يتعدى سنهم الرابعة عشر سنة يتأبطون “السبسي” و يجلسون مثنى و ثلاث و رباع جنب “السطارة” صباح مساء و هم يملؤون “الشقف” و ينفثون بشراهة حتى يؤذن المؤذن لصلاة العشاء فيتفرقون كل لحال سبيله.
أتذكر كيف وجدت شبابا داعبت معهم الكرة في عطل الصيف بحقول المنطقة و هم في حالة يرثى لها ، فقدوا نعمة العقل و أصبحوا مجرد كائنات كل من مروا بقربه يرمقهم بنظرات الشفقة و الاستعطاف و معها عبارة “الله يستر”.
وجدت في آخر زيارة للمنطقة عشرات من الشباب قد اختلت موازينهم العقلية يمشون بحرية في الساحات و الأسواق الأسبوعية ، يختلطون بعامة الناس ، يقضون نهارهم بالرواح و الإياب ، و لما تسأل عنهم يقولون لك “سطاهم الكيف و المشاكل”.
وجدت هناك شبابا عاطلا معطلا ، قنابل موقوتة قد تنفجر في أي لحظة و حين، أجسام قد يسهل استقطابها من طرف منعدمي الضمير بعد ان تجاهلتها السياسات الحكومية و لم تولها اي عناية و لا اهتمام في برامجها و مخططاتها و استراتيجياتها و مبادراتها.
قدرهم في الحياة ان يصيروا شبابا بلا علم، مدرستهم الحقيقية هي ما تعلموه من القدر و الحياة بعد أن تعبوا من قطع عشرات الكيلومترات و هم أطفال صغار في الحر و القر للوصول لمدرسة لا يأتيها المعلم إلا نادرا.
قدرهم في الحياة أن يصيروا شبابا بلا عمل، شغلهم الشاغل هو أن يلفوا بعد الدريهمات لشراء ربطة كيف من “البزناز” الذي يأتي بسيارته “الميرسيديس” كل مساء للدوار ، فهاته النبتة بالنسبة لهم لها دوران اثنان : الأول أن “قصها” يعينهم على تزجية الوقت الذي توقف بالنسبة لهم منذ زمان و الثاني أن تدخينها ينسيهم عالمهم و قدرهم و محيطهم و يجعلهم يتقمصون شخصيات أخرى في عوالم يحلمون بارتيادها بعدما وصلت ملامحها لهم عبر شاشات التلفاز و عبر القادمين من مدن بعيدة خلال عطل الصيف.
دواوير مع كامل الأسف تفتقد لكل الأساسيات ، هياكل غريبة كتب على يافطات بواباتها عبارة “فرعية مجموعة مدارس” ، أقسام بطاولات درس عليها تلامذة المدن في ستينات القرن الماضي ، و معلمين لا يأتون إلا لماما بعد أن أرهقوا بدورهم من الطريق الوعرة التي يقطعونها مشيا على الأقدام وسط الأشواك و الكلاب الضالة للوصول لقاعة الدرس.
دكان تحول ذات يوم لمستوصف يأتيه ممرض يصلح لكل شيء و لا يفرق بين البشر و البهائم ، يفهم في كل الأمراض و يعطي دواءا واحدا يصلح لكل العلل ، يزور المنطقة فقط يوم السوق الأسبوعي مادام يدرك أن عودته لمدينته ستكون ميمونة و هو محمل ب “القفة” و في جيبه بعض مما تيسر.
جماعات فارغة من موظفيها و الحصول على شهادة حياة أو عقد ازدياد قد يتطلب منك انتظار أسبوع من الزمان و مبلغا معينا من المال ، قيادات و مقرات درك و إدارات عمومية لا تحترم فيها حقوق المواطنة و لا الكرامة التي هي مجرد شعارات فضفاضة و لغة خشب في هاته المناطق.
طرق غير معبدة و أوفرها حظ ينعم ب “زفت” أسوء مما فضحه الشاب عبد الرحمان قبل أسابيع و دخل على إثره السجن لأيام ، حياة بلا معنى و يوم يشبه سالفه و حياة تستمر بلا ضجيج لتستيقظ بين الفينة و الأخرى على وقع جرائم مشابهة لما وقع بسبت سايس نهاية الأسبوع.
ساكنة ملأت التجاعيد وجوهها وهي في سن صغيرة بعدما أضنتهم مشقة الحياة و شظف البحث عن طرف خبز ، يعيشون من عائدات البقر و مدخول مركز الحليب في انتظار غيث رباني من السماء قد ينعش الحقول ، غير ذلك فهم لا ينتظرون التفاتة من الحكومة و لا من أي أحد آخر بعدما تيقنوا باكرا أنهم مواطنون بلا فائدة في وطن براغماثي بامتياز.
ما وقع بضواحي الجديدة نتحمل فيه جميعا المسؤولية ، فالدولة التي تهدر الملايير على المهرجانات و السهرات و القمم و اقتصاد الريع و ملف الصحراء و غيرها تتحمل نصيبا من المسؤولية لأنها لم توفر التطبيب اللازم و مراكز المواكبة النفسية لذاك الأربعيني الذي لم يجد سوى رقاب الأبرياء ليصرف اختلاله العقلي.
الأحزاب السياسية لها وزر في تلك الجريمة لأنها تعتبر ساكنة تلك المناطق مجرد رقم انتخابي تسثميله بالشيخات و الزرود في الحملة الانتخابية و أحيانا بالضغط و الترهيب لتنعم بصوته المبحوح في صناديق شفافة المرأى معتمة الكواليس.
المجتمع المدني المنشغل بمصالحه الشخصية و بحضور الملتقيات التي تناقش قضية المناصفة في الإرث بين الذكر و الأنثى و ندوات تعالج قضايا اليمن و الباهاماس و جزر الوقواق تتحمل جزءا مما وقع في سبت سايس لأنها لم تقم بالدور المنوط بها في التأطير الذي تتقاضى من أجله ميزانية مهمة من المال العام.
نحن مسؤولون أيضا لأننا نسوق لساكنة تلك المنطقة صورا مغلوطة عن التباين الطبقي و الرفاه الاجتماعي ، نجعلهم يحلمون أن يصبحوا ذات يوما مثلنا و يلبسون نفس الماركات التي نلبس و بوظائف كتلك التي نشغل و بزوجات شقراوات كتلك اللواتي يرون في مسلسلات قنواتنا العمومية ، تتزاحم الأحلام في مخيلاتهم فلا يجدون غير المخدرات لتحويلها لواقع افتراضي ، بالنسبة لعدد منا فهم مجرد “عروبية” يعيشون بفكر متخلف ولا يستحقون الاهتمام و لا مساواتهم معنا في الحقوق مع كامل الأسف.
كلنا مسؤولون عن ما وقع و يقع و ليس ذاك الأربعيني المختل وحده و إذا ما استمرت الأمور على ما هي عليه فالقادم سيكون أسوء ، ها هي مي فتيحة أحرقت نفسها فتلاها ثلة من المواطنين الذين لم تعد الحياة لهم تعني شيئا ، ها هم أبناء هذا الوطن و بعد أن أغلقت في وجوهم منافذ ركوب قوارب الموت يطيرون لتركيا و منها لدول أخرى ، حتى الانتماء تركوه خلفهم و اختاروا “لاجئ سوري” لعل و عسى تشفع لهم الظفر بحياة أفضل.
بعيدا عن كل تلك المزايدات و التنميق ، الوطن يتغير و يغلي ، كان الله في عون تلك الأسر التي رزئت بمقتل أفراد منها في “مجزرة” الجديدة و الله يحد الباس.
هبة بريس – ياسين الضميري