صوت وصورة

الفنانون الامازيغ المنسيون… يعيشون في ألم وصمت رهيب..

عندما أقدمت على التفكير في تصوير برنامج وثائقي عن الروايس، كنت على وعي تام بأن الأمر لن يكون سهلا بالضرورة. فهؤلاء الفنانون، ليسوا فنانين عاديين، يمارسون فنهم وإبداعهم كما يتعارف عليه فنانو العالم.. إنهم أكثر من ذلك بكثير، إنهم أناس يحملون في وجدانهم وأفئدتهم وأيديهم قرونا كاملة من الصبر والمثابرة والإبداع والفن..فنانون جعل منهم القدر حلقة وصل جبارة بين ماض عريق ومستقبل كبير يناشد العالمية والإبهار الذي يتجاوز الحدود التي رسمتها الظروف في يوم من الأيام.. الروايس هم القديسون الذين حملوا الأغنية الأمازيغية في أعماق التاريخ وأوصلوها بعناية فائقة إلى مسامعنا ووجداننا، فغذته ومنحته نكهة لا مثل لها.. إنهم الروايس الذين صنعوا أجيالا فنية بأكملها، أجيال متتالية تنعم بمعين فني لا ينضب.. خزائن فنية لا يمكن أن يحيط بها برنامج وحيد في دقائق معدودات، أو كتاب في مئات أو آلاف الصفحات..وكلما تعمقنا في ذاته إلا وزادنا الأمر إمتاعا وإعجابا..

إن موضوع الروايس بكل ما يختزنه من إبداعات غنية في جميع نواحيها، موضوع ضخم وثري.. يستطيع أن يشكل ثيمة فنية للاشتغال لقرون متتالية عديدة.. فهو يختزن بين ثناياه عناصر متداخلة ومتكاملة تمنحه قوة خارقة يستمدها سواء من خلال عنصر القصيدة الكلاسيكية المتماسكة ذات الجرس الموسيقي الفريد والبحور الشعرية اللامتناهية التي تسبح في فضاءات رحبة غير محدودة، أو من خلال الألحان الدافئة المليئة بإحساسات عميقة وأصيلة.. وهي جميعها عناصر مترامية الأطراف تشكل رموزا متينة للهوية الوطنية تلقي بالفخر والإعتزاز في نفوس المواطنين وتبرز للعالم غنى وثراء الثقافة الأمازيغية المغربية وعمقها الفني الذي يضرب بجذوره في أعماق تاريخ طويل صنعته أكثر من 33 قرنا من الحضارة ..

من هذا المنطلق تم التفكير في الشروع أولا في التاريخ لهذه الشخصيات الفنية الكبيرة التي أثرت بقوة في المسار الفني للأغنية الأمازيغية بجنوب المغرب، بما أنتجته من أعمال فنية ساهمت بجمالها الأخاذ في تشكيل ملامح موجة ضخمة من الإبداع الفني مازالت مستمرة.

وما زال الفنانون المعاصرون بمختلف مشاربهم ومدارسهم وألوانهم الفنية ينهلون من معينها الذي لا ينضب..ومنهم من أوصل هذه الإبداعات الخالدة إلى العالمية ومزجها بتناسق مثير مع الألوان الموسيقية التي أنتجتها حضارات عالمية معروفة ومنتشرة بشكل كبير.. ومن المنطق ذاته، قررنا أن نخوض في البداية في ظروف هؤلاء الروايس عمالقة الأغنية الأمازيغية الأصيلة.. ونقترب بعمق من مساراتهم الفنية والشخصية الحميمة.. ونستنشق وإياهم بعضا من همسات ماضيهم المجيد، وننصت بتمعن إلى مآلات حاضرهم ويومهم الآني..

لقد كانت تجربة تصوير هذا العمل الوثائقي التأريخي بالفعل، مناسبة مؤثرة للوقوف على تناقضات واقع ألم به الحزن والحسرة والضياع.. واقع بقدر ما استكشفنا من خلاله الكثير من حيثيات فترة فنية زاخرة الإبداع مجيدة الحال والأحوال، بقدر ما آلمنا ما آلت إليه أوضاع فنانين عمالقة صنعوا جزء كبيرا وزاخرا من تاريخنا الثقافي وساهموا في بناء حاضرنا ومستقبلنا الفني والثقافي المتميز. هذه الحال غير السارة التي أضحت الوجه المقلق لسياق ثقافي وحضاري آني لم ينصف بناة صرحه الشاهق، ولم يمكنهم من تبؤ المكانة التي يستحقونها بين أحضانه.. ولكنه رماهم لمواجهة شظف العيش وقسوة الحياة وبؤس العيش في كنف النسيان المؤلم..وهم الذين كانت حناجرهم تصدح في الأرجاء وتطرب ألحانهم جمهورا واسعا يمتد خارج وداخل أرض الوطن..

الروايس، أو قديسوا الفن الأمازيغي الأصيل، يستحقون منا التفاتا حقيقيا إليهم بغية إيصال معاناتهم إلى الجميع..معاناة مؤلمة تتطلب أن نقف جميعنا وقفة تأمل عميقة لرؤية جيل بأكمله يمر في صمت رهيب دون أن ينال ما يستحقه حقيقة وهو الذي صنع بهجتنا وجزء عظيما من تاريخنا الفني الثقافي. إنهم الروايس، الفنانون المنسيون..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
%d مدونون معجبون بهذه: