فـنّ “أجماك” .. إبداع غنائي أمازيغي أصيل يصارع الاندثار
يُعتبر “أجماك”، واحدا من فنون “أحواش”، ومن الفنون الغنائية التي تشتهر بها مناطق باشتوكة آيت باها، فيما شهدت قبائل أخرى، ضمن الرقعة الجغرافية نفسها، انقراض هذا اللون الغنائي النادر، الذي يتميز بارتجال الشعر في قالب حواري بديع، كما أنه نمط غنائي تراثي قديم، كان الإنسان الأمازيغي يتخذه وسيلة للتواصل وتبادل الرؤى بين الشعراء “إيماريرن”، بخصوص مواضيع سياسية واجتماعية واقتصادية وغيرها، هي في صميم اهتمامات المستمعين/الجمهور، كجزء مؤثر في الفضاءات التي تشهد أداء لوحات “أجماك”.
ويرى الأستاذ عبد الرحمان فارس، المهتم بهذا الشكل الغنائي، أن للطبيعة علاقة بفن “أجماك”، ذلك أن الإنسان يعيش على إيقاع الطبيعة، والغناء، يقول المتحدث، في تصريح لهسبريس، يصاحب العمل في الحقول، ويتم غالبا بشكل جماعي، تجسيدا لثقافة “تيويزي”، الحاضرة دائما في المجال الفني بأشتوكن، وخاصة في “أجماك”، الذي يُدمِج الشعر والرقص والإيقاع، في شكل إبداعي جماعي.
وعن مناطق انتشار “أجماك”، أضاف الباحث، أنه ينتشر في منطقتي أشتوكن آيت باها وإرسموكن نواحي تزنيت، فباستثناء الشريط الساحلي وماست، فـ”أجماك” يُمارس في القبائل التالية: إداومحند، آيت وادريم، آيت ميلك، آيت صواب آيت باها، إيلالن، في حين انقرض في بعض المناطق التي كان يعرف بها كإداوكنيضيف وآيت امزال.
أما العناصر المكونة لفن “أجماك”، فتتنوع بين “لْعْمْتْ”، وهي مجموع المشاركين في فرقة “أجماك”، ويتراوح عددهم بين 30 و50 فردا، بزيّ تقليدي وخنجر يبين مدى الأهمية الرمزية لـ”أسايس”، فضاء الممارسة، و”إد بوتلونا”، العازفون على آلة الدف أو “الطارة”، الذين يتوسطون المجموعة، يتقدمهم فردان يقومان بـ”أصندر” و”أكلاَّي”، أما إمديازن أو إنضامن “الشعراء”، فيتدخلون بشعرهم ضمن الفرقة، ويصعب تحديدهم من بين المشاركين، لكن في الغالب يكون هناك اثنان، كل واحد يتزعم مجموعته في قرض الشعر والرد على المنافس، في وقت وجيز.
كما يُعتبر الجمهور، “أكدود” باللغة الأمازيغية، ضمن العناصر المكونة للوحة “أجماك”، ويكون مُميزا ممن يستهويهم هذه اللون. وأضاف المتحدث عنصرا آخر، سماه بـ”إنفران”، وهم النقاد من الجمهور وشعراء مستمعون، عارفون بقواعد “أجماك” دون إغفال “العنصر الفني”، المتكون من الشعر واللحن والأداء الجماعي، من إيقاعات ورقص.
وعن طريقة أداء لوحة “أجماك”، فيقول أستاذ اللغة الأمازيغية والباحث في الثقافة الأمازيغية، لحسن أوباس، إن أعضاء فرقة “أجماك” يقفون موالين وجوههم باتجاه الجمهور، أما الشاعران، فيقفان بشكل ينظر كل واحد منهما في وجه الآخر، وذلك أثناء دخولهما في الحوار، أما الإيقاعيون، فوضعيتهم تكون بين الصفين “العمت”، وفي المقطع الأخير، يظهر أنهم يخرجون من وضعيتهم، ليشكلون أشكالا مختلفة مثل قوس أو دائرة أو يقفون على ركبهم، وتتعدد وضعيات “أجماك” بحسب مراحله، وفقا للمتحدث.
يتكون فن “أجماك”، بحسب أوباس، من عدة مراحل تتخللها عدة قطع غنائية، وكل قطعة تتكون من ترداد اللازمة وحفظ الكلمات الشعرية بشكل متزامن، وتستغرق مدة العملية زهاء 20 دقيقة، في الوقت الذي يقوم فيه الايقاعيون بتسخين آلاتهم “تِلُّونا”، ويقوم موزع الشعر المُكلف من طرف الشاعر بتمرير الكلمات الشعرية إلى باقي أفراد المجموعة، وتتعدد خصائص الشعر والإيقاع والحركة من قطعة إلى أخرى، يقول المتحدث.
هو فن يبلغ فيه الإنسان قمة سعادته، الذي يشتاق كل فرد، صغيرا كان أو كبيرا، إلى الغوص فيه كلما حضر في المناسبات التي تقام عادة، كالزواج، وكذا في بعض المناسبات الدينية، التي يحضر فيها “أجماك” دائما في بعض المناطق (تاركا نتوشكا، إمخيين، إداو منو…)، “في حين لم يعد يحضر في مناطق أخرى لأسباب إما مادية، أو تأثير الحركات الإسلامية على عادات وتقاليد المجتمع الأمازيغي”، يقول الباحث لحسن أوباس.
ومن العوامل المُساعدة والمُحفِّزة على خلق الفرجة وتأجيج نضم الشعر والمحاورة بفضاء “أجماك”، إطلاق النساء للزغاريد، والرجال للتصفيقات والهتافات، فضلا عن تقاطر الأوراق النقدية ووضعها على “عمامات” العازفين أو الشعراء، يجدون فيها تشجيعا وتحفيزا لمواصلة “السهرة” بحماس متزايد، كما يُساهم الفضاء غير المغطى في إنجاح هذا الفن، بحيث لا ينجح كثيرا في القاعات المُغطاة، ويفقد نغمته على مستوى الصوت والإيقاع، كما لاحظ ذلك الأستاذ أوباس.
ولم يعد هذا الفن يمتاز بالشعبية نفسها التي كان عليها، إذ أصبح فن آخر يحتل مجاله في القبائل المجاورة لتافراوت (اداو كنيصيف، آيت امزال)، وهو فن “أهناقار”، بحيث أصبح شباب “آيت وادريم” يفضلون فن “إصوابن إسمكان”، الذي يستمد إيقاعاته من فن “كناوة”، والملاحظ في الوقت الحالي أن غالبية ممارسي “أجماك” يفوق سنهم 55 سنة، ما ينذر باحتمال انقراض هذا الفن الأصيل، إن لم تتضافر الجهود لإنقاذه، يورد الباحث ذاته.
أحمد حنطجا، أحد الشعراء الرواد المشهورين، وجد نفسه، منذ سن الـ 14، عاشقا لفن “أجماك”، ونضم الشعر الأمازيغي، حول المحيط القاسي بمنطقته، إلى مجال تكسوه اللمسة الإبداعية والكلمة الرزينة، يحكي، ضمن حديث مع هسبريس، أن أوضاعه وزملاءه باتت تدعو للقلق، ولم يُخف المتحدث مخاوفه من اندثار هذا الفن التراثي، لغياب مؤسسات تُعنى بالحفاظ عليه، ونقله إلى الأجيال الصاعدة، كاشفا أن الفنانين لا يجدون أدنى اعتراف بمجهوداتهم، فلا تغطية صحية ولا دعما ماديا ولا التفاتة من قِبل وزارة الثقافة.
باستثناء بعض التكريمات المحدودة، والتي غالبا ما يتم استغلالها لجلب الدعم من المؤسسات الرسمية وغير الرسمية، ولا يصل منه غير الفتات إلى شعراء “أجماك”، يقول حنطجا، فإن إجحافا يُمارس في حق هذا الفن الذي عمر طويلا، ولم يتم تفعيل مبادرات للتعريف به، وإيلاء العناية اللازمة لشعرائه، الذين قضى منهم العشرات، دون أن ينالوا أي اعتراف.
والتأمت، مؤخرا، بآيت باها، هيئات جمعوية ومنتخبة في لقاء لامس الوضع الراهن لفن “أجماك”، وأجمع خلاله كافة المتدخلين بحلول الوقت لإحداث مؤسسة، سيُعهد إليها بتنظيم مهرجان بالمنطقة، يُعيد لهذا الموروث الثقافي المحلي بريقه، وستعمل المؤسسة، وفق محمد اليربوعي، رئيس بلدية آيت باها، على تنظيم أنشطة موازية؛ منها لقاءات علمية حول هذا الفن، ونقله إلى مناطق خارج آيت باها، بغاية التعريف به، وإحياء الذاكرة المحلية، وإبراز الموروث من موطنه الأصلي.