ربورطاجات

حفاري القبور وفقهاء وبائعات قنينات ماء الزهر…. أحياء سخروا حياتهم لخدمة الموتى

نادية عماري 

بعضهم مجبر والبعض الآخر مقتنع بنبل العمل الذي يمتهنه، سائقو سيارات نقل الموتى، حفارو القبور، فقهاء وبائعات قنينات الماء وماء الزهر. ظروف مختلفة تفرقهم لكن ما يجمعهم هو وظيفتهم المتعلقة بالمقابر والموتى، وإن تباينت طريقة تأدية المهام المنوطة بكل منهم، إلا أن الجانب الإنساني يظل حاضرا وبقوة، لإيمانهم بأن المقبرة تظل المثوى الأخير و المشترك لجميع البشر، على اختلاف شخصياتهم، ظروفهم وأفعالهم في هذه الدنيا الزائلة.

معاناة نفسية

“على الأقل كاينة شي حاجة كاتفيقك وتفكرك ديما باللي الحياة ما كاتسوى والو وآخرتها موت”، بهذه الجملة يلخص احمد، 42 سنة، حصيلة عمله في مجال نقل الأموات، التجربة التي راكمها منذ سنين يعتبرها بمثابة جرس إنذاري، يرن باستمرار ليذكره بأن متاع الدنيا فان، وأن الإنسان مصيره في نهاية المطاف كفن وقبر يوضع داخله، مهما علا شأنه، كبر وتجبر في حياته.

يعترف احمد أنه لم يكن راض عن المهنة التي يزاولها في بادئ الأمر، خاصة أنه وجد نفسه مجبرا لكونه لم يجد عملا أفضل، يحقق من خلاله طموحاته البسيطة على حد تعبيره، لكنه تعود بشكل تدريجي، وذلك حينما اقتنع بالهدف السامي لمهنته، على الرغم من ألم المشاهد المأساوية التي يعاينها والتي تؤثر بالسلب على حالته النفسية في أحيان كثيرة، نظرا لقساوتها، يشرح”بعض المرات ماكنقدرش ناكل النعمة، خاصة مللي كاتلقى شباب في مقتبل العمر”ماشاف ما اتشوف”، وافتهم المنية نتيجة مرض أو حادث، وكاتشوف والديهم كا يتقطعوا قدام عينيك، ماشي سهلة”.

مهما حاول احمد كتمان ما يخالجه من أحاسيس، يجد نفسه عاجزا عن الفصل بين عمله وما يحسه كإنسان من مشاعر، ليتحول من سائق لسيارة نقل الأموات إلى شخص يواسي ويخفف من هول الصدمة قدر المستطاع، وكأنه فرد من الأسرة أو العائلة التي فقدت شخصا عزيزا عليها، يقول”الفراق صعيب، الله يحسن العون، بحال هاد المواقف يقدر يكون فيها أي واحد منا، حتى حد ما عارف آشنو مكتوب عليها سوا اليوم سوا غدا”.

حفار القبور… نذير شؤم

“مع المدة ولى الموت حاجة عادية عندي”، يؤكد لحسن الذي يزاول مهنة حفر القبور منذ حوالي 23 سنة، لا يخفي إحساسه بالهلع والرهبة في أول سنة من اشتغاله، لكن سرعان ما تغير الإحساس ليعوضه شعور آخر بالطمأنينة وهدوء النفس.

“باقي تانعقل أول مرة خدمت فيها، ما جانيش النعاس ديك الليلة، جاني بحال الوسواس، وحتى مالين الدار ما كانش عاجبهم الحال، ولكن القدر هو هذا، ما تمشي غير فين ما مشاك الله”، يقول بنبرة واثقة.

وحول مسألة تقبل المحيط الأسري والعائلي لمهنته، اعتبر لحسن أن عائلته تأقلمت شيئا فشيئا مع الوضع، إلا أنه لا يخفي استغرابه من الطريقة التي يتطلع بها أحد جيرانه بالحي الذي يقطنه،”واحد السيد واخد مني موقف غير بسبب الخدمة، ينظر إلي بنوع من الريبة، وكأنني نذير شؤم على ساكنة الحي، ما عرفتش واش هذا وسواس ولا يمكن خايف يموت قبل مني وانا اللي نحفر ليه قبره”، يضيف بابتسامة عريضة.

يؤكد لحسن على شرف العمل الذي يقوم به على الرغم من النظرة السلبية للبعض، وكذا الدخل المحدود الذي يوفره، يستطرد قائلا”هاد الخدمة فيها بزاف ديال الأجر والثواب عند الله، عايشين مع الجواد، وهاد الساعة ماخصنا خير ولله الحمد”.

الفقها… وتدبر القرآن

بمجرد وقوفك بجانب القبر، يتناهي إلى مسمعك العبارة التالية””السلام عليكم، شي بركة؟”، سؤال يقابل به الفقها زوار المقابر من أجل تلاوة آيات وسور من القرآن الكريم، للترحم على روح فقيد عزيز.

الزمان، صبيحة الجمعة، المكان، مقبرة سيد الحاج بنعاشر بسلا، أمام أحد القبور، تجلس فتاة في مقتبل العمر في سكون تام، وهي تمسك بين يديها مصحفا صغيرا، تتلو آيات من الذكر الحكيم. عند سؤالها عن السبب وراء عدم الاستعانة بأحد الفقها المتواجدين في محيط المقبرة، أجابت”أحرص دائما على تلاوة القرآن بنفسي، الفقها كايزربوا بزاف في القراية ديالهم، خاصهم غير إمتى يساليوا باش يمشيوا دغية لناس اخرين، في حين أن هاته العملية تستوجب الخشوع والتدبر”.

الحشائش الكثيفة بفعل التساقطات المطرية الأخيرة، و التي تحيط بجنبات القبور وتعيق رؤيتها وكذا التجول بينها في محاولة البحث عن القبر المراد زيارته، لم تشكل راذعا للفتاة ولا بعض الوافدين، تحكي بامتعاض شديد”ماشي دابا الواحد يقدر يدير المصايب هنا وحتى حد ما يسيق ليه الاخبار، الجماعة ماكاديرش خدمتها، هاد الشي عيب وعار”.

“كون عندي ما ناخذ حتى ريال”

قنينات من الماء وأخرى من ماء الزهر تؤثث مدخل المقبرة، نساء يجلسن وهن يتبادلن أطراف الحديث، في انتظار الوافدين، وشباب من أعمار مختلفة يجوبون محيطها، حاملين قنينات فارغة بغية ملئها بالمياه من السقاية القريبة ووضعها بالمدخل، مقابل درهمين للقنينة الواحدة، تشرح فاطمة بكل عفوية”عايشين غير مع الجواد، كانعمروا الما من الديور ديال المحسنين ولا السقاية، واللي بغا يجير القبر ديال شي حد، كانجيروه ليه باش نصرفوا على وليداتنا”.

بالنسبة لها، فرغم بساطة ما تقوم به والدخل المتواضع الذي تحصله جراء ذلك، يظل عملها مبعثا للفخر والكرامة، مما يقيها من ذل السؤال ويساعدها في الآن ذاته على فعل الخير، تشير”الواحد هو اللي يدير الخير باش ماكان، وكون كان عندي ما ناخذ حتى ريال، راه ما عرفنا شكون السابق”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
%d مدونون معجبون بهذه: