أخبار جهويةمتابعات
دورية رئيس النيابة العامة حول إلغاء برقيات البحث: نحو ترشيد العدالة الجنائية بالمغرب حماية الحريات أم تعزيز الأمن؟ قراءة تحليلية في مضامين التوجيه الأخير

عبد الرحمان ابظار – إطار بوزارة العدل وطالب باحث في القانون
تُعد برقيات البحث إحدى الآليات القانونية التي تتيح للنيابة العامة وأجهزة الشرطة القضائية ضمان حضور الأشخاص المشتبه فيهم أو المتابعين أمام القضاء. غير أنّ هذه الآلية، رغم مشروعيتها، تظل سيفاً ذا حدين، إذ قد تتحوّل إلى وسيلة لتقييد حرية الأفراد بشكل غير مبرّر إذا لم تُحط بضوابط دقيقة. من هنا تأتي أهمية الدورية الأخيرة الصادرة عن رئاسة النيابة العامة بخصوص ترشيد إصدار هذه البرقيات ومراجعتها وإلغائها عند الاقتضاء.
أولاً: الأساس الدستوري والقانوني
ترتكز الدورية على المبادئ الدستورية التي تجعل من الحرية قاعدة، ومن التقييد استثناء لا يُلجأ إليه إلا بنص صريح ولأسباب وجيهة. كما تنسجم مع فلسفة قانون المسطرة الجنائية الذي يربط التدابير الماسة بالحرية بشرط الضرورة والتناسب. وعليه، يمكن اعتبار هذه الدورية أداة لتكريس الأمن القانوني وتعزيز الضمانات القضائية للأفراد.
ثانياً: مضامين الدورية
تضمنت الدورية مجموعة من التوجيهات الجوهرية، أبرزها:
تقييد إصدار برقيات البحث بحالات الضرورة القصوى، وعدم اتخاذها إجراءً روتينياً أو احتياطياً.
المراجعة الدورية لجميع البرقيات الصادرة، للتأكد من استمرار المبررات القانونية، وإلغاء ما فقد مبرره أو تقادم زمنه.
الإلغاء الفوري للبرقيات بعد حفظ المسطرة، أو إحالة الملف على التحقيق أو الحكم، أو في الحالات التي تسقط فيها الدعوى العمومية لأي سبب قانوني.
التنسيق المؤسساتي مع مختلف أجهزة إنفاذ القانون لتحيين قواعد البيانات وتفادي استمرار البرقيات دون مبرر.
ثالثاً: القيمة القانونية والعملية
رغم أن الدورية ليست مصدراً من مصادر القانون بالمعنى الضيق، إلا أنها ملزمة داخلياً لوكلاء الملك والوكلاء العامين، وتشكل مرجعاً موحداً لتطبيق مقتضيات المسطرة الجنائية في هذا المجال. تكمن أهميتها في ضمان الانسجام بين الممارسة العملية والتوجهات الكبرى للسياسة الجنائية، بما يحمي الحقوق ويحد من التعسف.
رابعاً: الآثار المتوقعة
على الأفراد: حماية المواطنين من الأضرار الناتجة عن استمرار برقيات البحث دون سبب، مثل منع السفر أو التوقيفات التعسفية.
على العدالة الجنائية: ترشيد الإجراءات وتخفيف العبء على المحاكم وأجهزة الأمن.
على ثقة المجتمع: تعزيز ثقة المواطنين في النيابة العامة بصفتها ضامنة للحقوق، وليس مجرد سلطة للمتابعة والزجر.
خامساً: التحديات العملية
يبقى نجاح الدورية رهيناً بعدة عناصر، منها:
توفير آليات تقنية لتحديث البيانات بانتظام.
تكوين مستمر لضباط الشرطة القضائية على الضوابط القانونية الجديدة.
وضع معايير دقيقة لتحديد آجال البرقيات واشتراطات الإلغاء.
متابعة دورية لضمان التطبيق الصحيح للتوجيهات.
سادساً: مقترحات إصلاحية
إحداث نظام معلوماتي مركزي وموحد يربط النيابة العامة وأجهزة الشرطة القضائية، يسمح بالإلغاء الفوري للبرقيات.
إقرار آلية للطعن أمام القضاء في حال استمرار برقية البحث بلا مبرر.
إصدار تقارير دورية عن عدد البرقيات الملغاة أو المتقادمة لضمان الشفافية.
تخصيص برامج تكوينية مستمرة للعاملين في الشرطة القضائية لتعزيز فهم الضوابط القانونية.
تعزيز التنسيق المؤسسي بين النيابة العامة، الأمن الوطني، والدرك الملكي لتسريع التحين وتوحيد المعايير.
خاتمة
إن دورية رئيس النيابة العامة حول إلغاء برقيات البحث تمثل خطوة نوعية في مسار تحديث العدالة الجنائية بالمغرب، إذ تهدف إلى إعادة التوازن بين متطلبات الأمن وضمانات الحرية، وجعل هذه الأداة القانونية وسيلة استثنائية لا تُمارَس إلا عند الضرورة القصوى. غير أن نجاح هذه المبادرة يظل رهيناً بمدى الالتزام بالتنفيذ على أرض الواقع، وتوفير الآليات التقنية والرقابية، وتعزيز التنسيق بين مختلف الفاعلين في المجال القضائي والأمني. وإذا ما أُحسن تنزيل مقتضياتها، فإنها ستشكل محطة فارقة في ترسيخ الأمن القانوني وصون الحقوق الأساسية، وتعزيز ثقة المواطن في النيابة العامة، وجعل السياسة الجنائية أداة لحماية الكرامة الإنسانية قبل أن تكون مجرد وسيلة للزجر والمتابعة.



