أعمدة

الصحراويون بين الأمس واليوم…

Sans_titre_631745068444

اكابريس _ مريم التومي

  “باقي داك السوق ديال امحيريش؟ومدرسة لمتونة؟وداك الشارع اللي…” يستفسر رضوان محدقا في السماء وهو يحاول تذكر اسم ذلك الشارع؛ رضوان 24 عاما، موظف بالدار البيضاء، بالرغم من سنوات غيابه الخمس عشرة عن مدينة كلميم -بوابة الصحراء، إلا أنه ما يزال يتذكر أصوات الباعة المتعالية بسوق “امحيريش”. وجوه زملائه بمدرسة لمتونة الابتدائية،وعادات وتقاليد “مميزة” لساكنة تلك المنطقة الهادئة التي أمضى بها معظم أيام طفولته،قبل قرار والديه بالسفر للدار البيضاء، والاستقرار بها نهائيا. 

 مدرسة “لمتونة” بقيت على حالها، وسوق “امحيريش” لازال يحمل نفس الاسم… لكن ما طاله التغيير هو ذلك الموروث الثقافي للصحراويين من عادات وتقاليد…  

حنين لخبز الأم…

عقارب الساعة تشير إلى الثانية زوالا،تسرع سلمى في تقديم أطباق الغذاء المتأخر، ديك رومي محمر مزين برقائق اللوز والمشمش يتوسط المائدة، وأطباق أخرى لسلطات متنوعة زينت بطرق فنية بالإضافة لزجاجات عصائر ملونة وزعت على أطراف المائدة.سلمى امرأة صحراوية، متزوجة حديثا، على الرغم من ساعات عملها الكثيرة، إلا أنها تجد الوقت الكافي لمتابعة شهيوات شميشة وتصفح كتب الطبخ.

 ترحب سلمى بأم زوجها الحاجة مينتو،  تستفسرها عن حال الحاج لتجيب وهي تتناول إحدى الشوكات الموضوعة على المائدة: “بخير الحمد لله” لتسألها سلمى مرة أخرى، وهي تحمل طبقا لتتبيلة كانت قد أخذت مقاديرها من أحد مواقع الأنترنيت: : “خالتي ندير ليك من ذا؟” تتساءل الحاجة : “ذاك شنهو؟” فتجيب سلمى: “ألا التوابل والمايونيز  والخل و…”. تقاطعها الحاجة: “لا لا شي حامظ ما ندورو، كافيني ذي الخظرة الحية”،  كناية عن كون الخضر نيئة.

النظام الغذائي عند الصحروايين يتميز بكونه جد انتقائي يعتمد في أساسه على المواد الطبيعية.

السالكة أربعون عاما ربة بيت تقول : : “الناس اللولين كانو يفطرو بالعيش بالدهن (السمن) والعسل ولا اللبن مهو ذشي الاصطناعي كيف كاشير والفرماج… اللي ما عندو نفع “.

 وبذات الشأن يقول عمر نجيه أستاذ باحث في تاريخ وتراث الصحراء: ” ثقافة الإنسان الصحراوي مرتبطة بعلاقته بجغرافية الصحراء وتأقلمه معها ضمن أبعاد متعددة من ضمنها النظام الغذائي الذي تأثر بدوره، وكان خاضعا لجبرية الطبيعة ونمط العيش المتجسد في الترحال،حيث كان هذا النظام ينبني بالأساس على لحوم وألبان الإبل  والماعز، بالإضافة لمستخلصات الشعير الذي كان متوفرا آنذاك ، فضلا عن الشاي”.

وقد أظهرت دراسة أجراها مجموعة من العلماء أن نسبة الدهون بألبان الإبل جد ضئيلة، كما أنها سهلة الامتصاص والهضم، فضلاً عن ذلك فإنها تحتوي على مواد تقاوم السموم والبكتريا،ونسبة كبيرة من الأجسام المناعية المقاومة للأمراض. ويمكن وصف حليب الإبل لمرضى الربو، والسكري والتهاب الكبد الوبائي، وقرح الجهاز الهضمي، والسرطان…

كما كشفت الدراسة عن احتواء ألبان الإبل على نسبة عالية من المياه تتراوح بين 84% و91% وهي نسبة غير موجودة في أي نوع من الألبان الأخرى، كما أبرزت الدراسة أن حليب الإبل يعتبر بمثابة بديل غذائي مهم عن الفواكه الطازجة والخضراوات الورقية، نظرا لغناه بالفيتامينات والمعادن.  

التغيير لم يشمل طبيعة المواد الغذائية فقط، بل طال طرق الطبخ بدورها، يقول الأستاذ نجيه  بأن الأطباق التقليدية أصبحت متجاوزة ومرتبطة بمناسبات معينة،وبذات الموضوع تقول السالكة بأن اللحم مثلا كان يشوى في غالب الأحيان أو يطهى مع البصل والسمن دون إضافة أي توابل أو ملونات غذائية…، بالإضافة لطريقة أخرى يتم خلالها وضع اللحم في قدر حديدي (الحوض) يغلق ليوضع فوقه وأسفله الجمر حتى ينضج اللحم على مهل… وتضيف السالكة بأن الخبز بدوره كان يهيأ بطريقة تقليدية كما هو الشأن بالنسبة لـ “خبزة الحجار” التي  كانت تعد دون إضافة الخميرة و”خبزة الحفرة ” التي كانت تطهى بفرن تقليدي كما يدل على ذلك اسمها، لتتابع السالكة سرد طريقة إعداد هذا النوع من الخبز الذي كانت رائحته تشتم من الخيام المجاورة ، وملامح الحنين للخبز الذي كانت تعده أمها بادية على محياها.

“كل جيل عندو الستيل ديالو…”

“كماتشو كاين شي جديد؟” تستفسر لبنى البائع وهي تتفرس أحد سراويل الجينز بواجهة المحل، ليجيب “كماتشو” بصوت مبتهج: “مجووود”.لبنى ذات السبعة عشر عاما فتاة تعشق الملابس وجديد الموضة كباقي صديقاتها، تدخل لبنى المحل… ، وتغيب داخل غرفة تبديل الملابس دقائق معدودات، لتقبل صوب صديقتها لاستشارتها وهي ترتدي سروال جينز ضيق قاتم اللون، وقميصا قصيرا أبيض، يحمل صورة لإحدى المغنيات الأمريكيات الشهيرات بدل الملحفة (الزي التقليدي الصحراوي) التي كانت ترتديها قبل هنيهات “جاوك غزالين” يعلق البائع وهو  يجمع بعض الملابس في كيس بلاستيكي لزبونة أخرى..  تبدي الصديقة إعجابها بالقطعتين…  لينتهي الأمر باقتنائهما، يودع  البائع الفتاتين وهو  يردد منبها: “راه غدي نجيب سلعة جديدة من الشمال نهار الخميس إنشاء الله” .

من الشمال للجنوب تتغير الوجهة لا يتعلق الأمر هنا بسفر إنما بسلع وافدة؛ ملابس عصرية تجلب من الشمال تارة  وأخرى تقليدية تستورد من الجنوب، من موريتانيا تحديدا، ليتم بيعها بأسواق مغربية، كما هو الحال في شارع  موريتان بكليميم، حيث زينت مداخل المحلات بأثواب جذابة: فهذا ثوب انسيابي حريري الملمس، واخر زين بأزهار جميلة توحي بجو ربيعي بديع،أو بأشكال هندسية تداخلت بطريقة منسجمة أنيقة…

” خالكة مناسبة عند جيرانا وخصني نحكم ملحفة نحظر بيها”، هكذا تجيب زهرة بخصوص سبب قدومها لشارع موريتان، لتضيف وهي تعدل الملحفة لتغطي مقدمة شعرها الشديد السواد : “الطفلة ضروري خصها تلبس الملحفة فالمناسبات وعيب تجي باللباس العصري خصوصا السروال”. وبهذا الصدد  يقول الطالب بويا لعتيك المدير الجهوي للثقافة بكليميم بنبرة مستغربة : “لم يكن من الممكن إطلاقا أن تدخل الفتاة على أبيها وهي ترتدي ملابس عصرية،الآن أصبح يصطحبها للسوق لتشتري ما تشتهي من هذه الملابس”. ويتابع المدير الجهوي للثقافة بحاجبين مقطَبين : “وهذه المساحيق الكثيرة والأصباغ التي أصبحت الفتاة والمرأة عموما تضعها، أمور مستحدثة، حيث إن الفتاة قديما لم تكن تضع الكحل في عينيها أمام أبيها، أومن يكبرها سنا من إخوتها”.

“الفتى أيضا كان من المستحيل أن يضع سواكا بفمه أمام أبيه ومن يكبره سنا، كدليل يعبر عن مدى احترامه لهم. أما الآن أصبحت له طقوسه الخاصة، في اختيار ملابسه وحلاقته وهيأته عموما التي لا تحترم أدنى القواعد العامة للمجتمع الحساني”  بصوت جهوري، يقول السيد الطالب بويا لعتيك.

 أما الأستاذ الباحث عمر نجيه فيقول بهذا الشأن: مكونات اللباس الصحراوي فضلا عن كونها خفيفة، وذلك انسجاما مع طبيعة المناخ ، فإن ألوانها كانت متمثلة أساسا  في: الأبيض والأسود والأزرق” ويضيف : “اللثام كان مكونا أساسيا لزي الرجل الصحراوي، كما كانت له أبعاد عدة: أبعاد سياسية حيث أن دولة المرابطين كان يطلق عليها دولة الملثمين، وأبعاد اقتصادية تجارية ، ثم أبعاد دينية يتعلق الأمر هنا بقبائل الزوايا كـ قبيلة الشيخ ماء العينين مثلا، كما أن هناك الكثير من الشعراء الذين اتخذوا اللثام موضوعا لقصائدهم ،كرمز اجتماعي مميز للمجتمع الصحراوي”.

موسيقى صاخبة  وصوت ريهانا المثير يردد :« Please don’t stop the music.. » ،  يلج محمد البيت،دون أن يخفض صوت هاتفه كما لو كان يلبي رجاء المغنية. يقبل والدته التي تسأله عن يومه كيف أمضاه،  لتقول له : “باقي ما هداك الله أولدي” معلقة على مظهره،  ليذهب صوب غرفته دون أن يعير ملاحظتها اهتماما، فهيأته أصبحت مألوفة لدى ذويه  سروال فضفاض دون حزام يشده، وتسريحة شعر غريبة يحلو لأمه بأن تشبهها بـ”عرف الديك”، محمد تلميذ بالباكالوريا بثانوية باب الصحراء التأهيلية بكليميم،  يعتبر المظهر أمرا شخصيا، يقول بابتسامة خفيفة مرسومة على شفتيه : ” كل جيل عندو الستيل ديالو وما يمكنش أنا مثلا نلبس بحال ما كان كيلبس الواليد “

عرس عصري…

المناسبات الاجتماعية بالصحراء،وإن كانت قد حافظت على صورتها العامة، فقد شابها بعض التغيير، فبخصوص الزواج مثلا تقول السالكة بأنه كان لا يتم إلا في إطار أبناء القبيلة الواحدة،  أما الآن فقد أضحى الأمر متجاوزا.  وبذات الشأن، يقول السيد الطالب بويا لعتيك: “الشاب كان يخضع في اختيار قرينة حياته لوالدته  التي يقبل اختيارها دونما تحفظ ، كما أن الفتاة لم تكن تستشار بخصوص زواجها…، وكل هذا كان يدخل في إطار البرور الأعمى السائد آنذاك بين الآباء والأبناء” ويعتبر المدير الجهوي للثقافة بكلميم أن أغلب الزيجات التي تمت بهذه الطريقة التقليدية كانت  ناجحة ومستقرة، ليتابع:”اليوم تغير الأمر وأصبح الشاب يختار لنفسه الفتاة التي تعجبه كما أن الشابة بدورها أصبحت صاحبة الرأي الأول والأخير بخصوص قبول العريس المتقدم أورفضه”.

وعن طقوس العرس الصحراوي يقول:” الزواج كان يتم في 7 أيام لتتقلص مدته فيما بعد لـ 3 أيام أوليلة واحدة ساهرة في بعض الأحيان”، يقول الأستاذ الباحث عمر نجيه  بهذا الخصوص: “كل شيء كان تقليديا: الفضاء الذي يتم فيه الاحتفال والوليمة واللباس  والطقوس.. اليوم أصبح العرس عصريا في كل ملامحه وطقوسه.” ويضيف مبتسما: “ربما لهذا كان ذلك الزواج أبرك وأنجع”.

تقول لبنى وهي تحملق بعينيها السوداويتين اللتان زادهما الكحل سوادا: “العرس الصحراوي باقي محافظ على التقاليد و العادات ديالو فبزاف ديال المظاهر”، وتضيف بصوتها الأنثوي الدافئ :” غير أوكان بطريقة عصرية كتناسب مع العصر” ، لتلتفت صوب صديقتها وتضيف بنبرة متحمسة : “فراسك عرس بشرى منت جيرانا، لاهي يعدلو الكيتار وDJ  أغاني صحراوية وشرقية…”.

حتى لا يطاله النسيان…

“الغاية من نشر مجلة وادي درعة تتمثل في توثيق الثقافة والفن المحليين، وتدوينهما ، وحفظ الموروث الفني والحضاري للصحراء من الاندثار”، يوضح مدير تحريرها مولاي علي اطويف وهو يرتب بعناية فائقة بعض الأعداد السابقة من المجلة على أحد الرفوف،ليضيف : “نقوم أيضا ومن خلال مركز التوثيق للجمعية – جمعية النخيل للثقافة والتراث والفنون-  بطبع ونشر كتب ودراسات ودواوين شعرية تعنى بالثقافة الحسانية. ويضيف بنبرة متحسرة”. اليد الواحدة لا تصفق ونحن لا نزال ننتظر مساهمة كل الغيورين على هذا التراث الزاخر من أجل تدوينه وحفظ مظاهره حتى لا يطاله النسيان” ،

الألعاب الشعبية، الحكايات والأمثال الحسانية ومكونات ثقافية أخرى،  ربما لن يعايشها رضوان عند زيارته المرة المقبلة لكليميم،أو على الأقل ليس بذات الشكل، فهي تبقى عرضة للزوال والاندثار أمام مظاهر العولمة الجارفة.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
%d مدونون معجبون بهذه: