متسولون في العواشر يعرضون عاهاتهم لاستدرار عطف الصائمين

اكابريس انفو
من المظاهر الاستثنائية التي تصاحب أجواء شهر رمضان في مدينة المحمدية وكما هو الحال في عدد من المدن المغربية ظهور أعداد كبيرة من المتسولين نساء ورجال بل وحتى الأطفال فجأة، إما فرادى أوعائلات يجوبون الشوارع والأحياء الشعبية ليلا ونهارايعرضون عاهات وحيل أو يصطحبون أطفالا صغارا أو من ذوي الاحتياجات، .. معظهم قدم من دواوير ومدن أخرى، حيث يقومون باكتراء غرف أو يتنقلون باستمرار لمدة شهر واحد.. فرمضان بالنسبة للعديد منهم.. مناسبة لاتعوض لكسب مال إضافي قد لايتأتى لهم في بقية الشهور الأخرى..
«جينا نديو شي براكة ديال العواشر أو صافي.. الوقت مزيرة شويا فالبلاد.. مابقا مايدار». بنبرة يطبعها الخجل يصف «عبد الله» حالته الاجتماعية وقد علت ابتسامة مرتبكة ملامحه المنهكة بأشعة الشمس، وإجهاد الصيام وهو يسوي قب جلبابه الصوفي فوق رأسه. تابع بنظراته حركة طفليه الصغيرين اللذين كانا يلعبان أمامه ببراءة فيما زوجته تحاول ثنيهما ومنعهما من الابتعاد عن مكان جلوسهما غير بعيد عن بوابة مسجد مالي وسط مدينة المحمدية. استرسل «عبد الله» في الحديث لكن بحذر هذه المرة « خويا حنا من القلعة من سيدي بوعثمان كنجيو كل عام تقريبا.. كندوزو الفترة ديال رمضان مع الحباب.. كنكريو شي بيت وورا العيد كنرجعو..». إقامة العائلة لم تكن لتدوم لأكثر من أربعة أسابيع، هي مدة الشهر الفضيل. فقساوة العيش في الدوار، وقلة فرص العمل أمام عبدالله والعديد من أمثاله، كانت دافعا إلى اختيار طريق «الهجرة» رفقة عائلته الصغيرة. بالنسبة لأفرادها فإن «برنامجهم» اليومي يبدأ عند حدود الساعة العاشرة صباحا، يغادرون غرفتهم في اتجاه فضاءات محددة من المدينة كالمساجد على الخصوص، وقرب الأسواق التجارية، خاصة السوق المركزي بالعاليا، أو قرب أسواق السمك ومحلات بيع الحلويات والخبز بها. في هذه الفضاءات لايكل هو وزوجته في إطلاق سيل من دعوات التوسل.. والاستجداء ، يستمر الأمر ساعات كاملة من النهار قبل أن يحين موعد الافطار.
يعتبر «عبد الله» أن «هجرته» مشروعة فشهر رمضان بين الناس عموما له سحرا خاص، يختلف عن الشهور الأخرى. « الناس كيوليو سبحان الله سخيين..» يعلق ضاحكا. فالأشخاص سواء في الشارع أو بعدد من الفضاءات االمشتركة يبدون تعاطفا، وسخاءا كبيرين إزاءه خاصة وهو يتقدم إليهم مستعطفا كرمهم برفقة زوجته وطفليه الصغيرين. «كيحنوا بزاف ملي كيشوفوا الوليدات..». أما المساعدات العينية والمال والذي يتحصل عليها، فإنه يدخره بشكل كامل تقريبا بعد أن يقتطع منها وجيبة كراء الغرفة التي لاتتجاوز خمسمائة درهم. أما بخصوص توفير الطعام فإنه يصرح بنبرة تفاؤل « ليس مطروحا بالحدة مثل الأيام الأخرى.. فموائد الرحمان، منتشرة في أكثر من مكان.. والجيران يمدوننا بالطعام بشكل يومي تقريبا، وهو ما يسمح لنا بالاحتفاظ بجزء منه لتناول السحور، وكذا توفير وجبات الطفلين». فرغبة الناس في الإنفاق والتصدق في رمضان لاحدود لها، كما أن إعلان الجمعيات الخيرية المحلية، أو أشخاص عن برامج للافطار الجماعي وعن مساعدات عينية مباشرة، يضاعف عدد المحتاجين والفقراء الذين يظهرون بكثرة خلال أيام رمضان، ويطبعون إقبالا شديدا على موائد الرحمن.
هجرات رمضانية مؤقتة ..
هجرات المتسولين المؤقتة إلى المدن لاتقتصر على العائلات فقط، «عمر» في عقده الثالث بدوره تعود على شد الرحال من دواره بنواحي مدينة سطات إلى مدينة المحمدية. قبل أن يقبل على التسول رفقة زميل لها عمل منذ سنتين مساعدا لصانع «الشباكية» لكن الأجرة الهزيلة التي حصل عليها بعد أسابيع من العمل أصابته باليأس، فقرر أن يحذو طريقا آخر، ويبتدع وسيلة أقل تعبا، وأكثر دخلا. «خاصك غير تكون قافز .. الخير موجود» يعلق بنوع من السخرية.
تعود ومنذ الليلة الأولى من رمضان وبعد الافطار مباشرة على مغادرة غرفته المشتركة التي اكتراها مع زميل له بحي الراشيدية بالمحمدية نحو حي القصبة بنفس المدينة. الحي الأول عموما بانخفاض أثمنة الكراء وبوجود أعداد منهم يحترفون التسول، أرغمتهم ظروفهم على استغلال استثناءات المناسبة الدينية لتدبر دخل مادي مهما كانت طبيعة الوسيلة لذلك.
يتوجه مباشرة إلى مسجد القصبة الذي يقع وسط المدينة السفلى حيث يرابط في مكان منزوي، بعيدا عن المتسولين الآخرين الذين يفدون إلى هذا المسجد المعروف بإقبال المصلين عليه الذين يؤمونه، في انتظار لحظة انتهائهم، من أداء صلاة المغرب. كانت عبارة «عاونوا هاد المسلم.. الله يرحم الوليدين» لاتفارق شفتاه وهو يمد يده إليهم. عمر ورغم بنيته القوية، وقدرته على العمل، فإنه يتظاهر بالعجز بطريقة جد محترفة، يختار لذلك زميلا له يقوم باقتياده في جولاته في الشارع ولدى أصحاب المحلات التجارية أو أثناء جولاته بين المقاهي مساءا حيث يقدم أمام زبنائها رزنامة من الشواهد والتحليلات الطبية، وعلبا أدوية فارغة «خوتي هاد المسلم راه مريض بالكلاوي .. كيدير الدياليز عانوه باش اشري الدوا الله ارخم الواليدين». زميله هذا يتقن دور المتكلم بإسمه باميتاز، فيما عمر يتابع تحركاته وهو مطأطأ الرأس يحاول أن يصطنع حالة شخص منهك غير القادر على الكلام، أوالحركة. جولتهما المسائية تختلف من يوم لآخر، فهما يغيران من مسارها حتى لاينكشف «المخطط»، وقد ينتقلان بعدها إلى المدن المجاورة، خاصة إلى العاصمة البيضاء، هناك بمستطاعه أن يتنقل بين أكثر من مسجد وفضاء، وحي، حيث تقل « المنافسة» بين المتسولين، للحصول على بعض المال رغم «المنافسة» الشرسة بين شبكات المتسولين الذين لايترددون في شن حرب مفتوحة حول العطايا والصدقات، تصل في كثير من الأحيان إلى استعمال عبارات وألفاظ جارحة، تدفع الغرباء إلى الإبتعاد عن مناطق « نفوذهم». لكن بالنسبة لعمر وزميله فإنهما يجدان الأعذار لهؤلاء « إنهم يعتقدون أننا ننافسهم، لكن ظروفنا تختلف، نحن هنا بشكل مؤقت.. فنحن نعود إلى الدوار بعد انتهاء رمضان مباشرة.. ولي بغا يربح العام طويل».
متسولون منافسون ..
فضاءات المدن بصخبها وأجوائها الروحانية لم تعد كحرا على المتسولين «المحليين» فقط. فهناك وافدون جدد، بلون ولغة وانتماء مغاير، بل وبمآسي مختلفة، تزايد عددهم في السنوات الأخيرة وباتوا يشكلون بمثابة منافسين حقيقيين لممتهني هذه « الحرفة». معظهم وبعد أن ضاقت بهم السبل وفشل محاولات هجرتهم إلى أوروبا اقتحموا عالم التسول في البداية باحتشام. لكن بعد مدة أصبح عنصرا أساسيا لظاهرة لاتخطؤها العين. أفارقة من جنوب الصحراء فطنوا إلى مايشكله هذا الشهر لدى المسلمين من قيمة دينية ورمزية تحث على الصدقة، ومساعدة الفقير، وتقديم كل يمكن أن يشكل و،سيلة للتقرب من الله، ونيل مغفرته وثوابه. كانت المصادفة وإكراهات فضاءات التسول، وضيق الفسحة الزمانية، هي التي ترغمهم اعلى التواجد في الأماكن التي يرتادها المتسولون المحليون، خاصة في الفترة الليلية. ويظهر هذا «التنافس» جليا في بعض المشاهد والمواقف المثيرة للشفقة أمام أبواب المساجد أو في بعض الفضاءات العامة كالحدائق والأسواق والمقاهي، حيث يكثر عدد المتسولين وتنشب الشجارات والملاسنات، ليصبح فيها المتسول «البراني» الحلقة الأضعف حيث يفضل الانسحاب، خوفا من حضور الشرطة الذي لايترددون في نقل الجميع إلى أقرب مركز أمني للتحقيق معهم. بإحدى المقاهى الشعبية بمنطقة العاليا، وبعد الافطار مباشرة كانت أصوات الزبناء تمنع متسولة افريقية، في عقدها الثالث وقفت أمام واجهة المقهى وهي تحمل فوق ظهرها رضيعا صغيرا، كانت تحاول أن تسمع عبارات التوسل القليلة التي تحفظها باللغة الدارجة. كانت ترفع سبابة يدها إلى الجمهور المنشغل بأحداث تظاهرات ومسيرات مرددة « شي صدكة.. شي صدكة » وتبتسم ببراءة في وجوه الزبناء الذين ألفوا منذ مدة غير قصيرة وجوه بل أسماء وانتماء هذا الصنف من المتسولين الذين يداومون التردد على المقاهي بشكل يومي تقريبا . لكن فجأة تحولت أنظار الرواد من سخونة الأحداث في الشاشة ، إلى متابعة مشادات كلامية من نوع آخر غير منتظر بين متسولتين الأولى الافريقية، و الثانية « بنت بلاد » وسيل من الأسئلة المستفزة، يربك تفسير هذا المشهد الذي يتكرر كثيرا بين المتسولين المحليين، فكيف بالأجانب.
في تلك الأثناء، وبينما كانت المستولة الافريقية تهم بتسلم قطعة نقدية من أحد الزبناء إذ بيد متسولة أخرى تتلقفها من يدها « هادي ماشي ديالك.. نتي ماديزاش فيك الصدقة..». المهاجرة فوجأت برد فعل السيدة التي لم تخف غضبها من هذه المنافسة « غير المشروعة» التي بات يشكلها المهاجرون والمهاجرات الافريقيات في طلب الصدقة والاستجداء واستدرار عطف المارة « باز تبعتونا حتا فالطلبة .. ». الفتاة، كانت أسرع إلى صدها في الحصول على القطعة ، واكتفت بالرد عليها بانفعال شديد، لكن الزبناء استهجنوا هذا السلوك، وخاطبها أحدهم « خلي ليها فلوسها.. مالكي حسادا.. هذا راه رمضان..» ثم مد إليها قطعة نقدية ثانية في محاولة لإطفاء نار المعركة التي احتدمت بين الطرفين دون سابق انذار. أحد الزبناء تابع المشهد من البداية تأسف بشدة وقال « مشاهد تحز في نفوسنا كثيرا، فلعنة التسول ، تطارد جميع الجنسيات.. لكن رغم هذا التعامل الخشن، فهناك تعاطف مسبق مع الجميع اتجاه هذه الفئة».
رمضان .. ظواهر استثنائية
حسب اعتراف أحد المسؤولين عن برنامج محاربة التسول على صعيد ولاية الدارالبيضاء، فإن ارتفاع أعداد المتسولين في رمضان يتجاوز كل الأرقام. فرغم أن عدم وجود احصائيات محددة لعددهم مقارنة مع الفترات العادية، فإن الجولات التي تقوم بها الدوريات خاصة خلال فترات النهار، تفاجؤ بظهور أعداد وعينات بعاهات جسدية، أو برفقة الأطفال الصغار وذوي الاحتياجات في أمكنة وفضاءات متعددة. معظهم حل بشكل مفاجئ من خارج المدينة، يشكلون ظاهرة استثنائية خارج نطاق المراقبة وأهداف خطة محاربة التسول فالعاصمة. فالوافدون إلى المدن غير قارين، ويتنقلون بشكل كبير بين أحيائها خاصة الشعبية منها. معظهم يختار الفترة المسائية للممارسة نشاطهم، لكونهم يعلمون أن الدوريات يقل عددها بعد حلول الظلام مباشرة، أما بعد الافطار، فهي شبه منعدمة، خاصة بالقرب من المساجد، والمقاهي والفضاءات العمومية.
المصدر لايخفي حقيقة أن وحدات المساعدة الاجتماعية تجد صعوبة في تطويق الظاهرة وهي تخلد إلى ما يشبه راحة إجبارية نظرا لطبيعة هذا الشهر. فدروياتها تجد صعوبة في مطاردة المئات من المتسولين من مختلف الأصناف والأعمار بين دروب وأزقة الولاية. « هناك تضاعف لأعداهم بشكل كبيرة فالمرء سيندهش للعدد الكبير للمتسولين في ليالي رمضان.. من أين يأتون.. أين يقيمون ، وكيف يتدبرون أمورهم ومن يققف وراءهم ؟» يتساءل المسؤول باتسغراب شديد .فما إن يأذن المؤذن بحلول موعد الافطار، حتى تتغير معالم الطرقات والشوارع، وتصبح فضاء مفتوحا لعرض أنواع من العاهات، وإدعاء والحيل، وقائمة من الدعوات والنداءات . ويرى ذات المسؤول « الظاهرة ليست معزولة، ولاتقتصر على أفراد فهناك شبكات منظمة يزدادا نشاطها بكثرة في مثل هذه المناسبات الدينية تستغل المئات من المتسولين، وتستقدمهم من المناطق المجاورة، خاصة الدواوير الفقيرة، وتقوم بتوزيعهم على محاور محددة بالمدن وجني أموال مهمة من ورائهم». أما بالنسبة لعبدالله وأسرته.. وكذا عمر وزميله، فإن رحلتهم المؤقتة وهجرتهم القصيرة قد وصلت هذه الأيام إلى منتصف الطريق.. المدة المتبقية التي تفصلهم عن موعد عودتهم إلى دواريهما تقترب. « غادي نطلقوا البيت ونرجعوا.. ويلا كتب الله العام الجاي هاحنا هنا» يعلق عبد الله بتفاؤل، وهو يصف هجرته الاستثنائية للتسول ، أما عن مدخول الأيام الماضي، فهو من الأسرار « كاين شويا دالخير.. » يختم معلقا.



