أعمدة

مْشات عْلى عينكم ضْبابة يا لْمغاربة

المساء العدد :2596

الراحل عبد الله باها دفن أسراره معه.. ليس فقط أسرار تلك الحادثة المفجعة التي ستظل لغزا إلى الأبد، بل أيضا لغز تلك السنوات التي بقي فيها إلى جانب رفيق عمره، عبد الإله بنكيران، وهما يحاولان فك ألغاز كثيرة أخرى.. ألغاز هذه البلاد.
لا أحد يجب أن يتقوّل على الموتى، لكن البعض يقول إن الراحل باها كان، قبيل موته، يُسرّ إلى المقربين منه بأن حكومة بنكيران انهزمت أمام الفساد، وأن الراية البيضاء، إن لم تكن قد رُفعت في الخفاء، فإنها لا محالة ستـُرفع يوما ما علنا وسيراها المغاربة جميعا.
لنقل إن هذا الكلام المنسوب إلى باها غير صحيح، لأن لا أحد يمكن أن يؤكده أو ينفيه، لكن حكومة بنكيران لاتزال حية، وهي الوحيدة التي تؤكد كل يوم ذلك الكلام المنسوب إلى المرحوم باها حول رفع الراية البيضاء.
بنكيران، كان أولُ ما فعله عندما صار رئيسا للحكومة هو ابتكار مصطلحات مثل «العفاريت والتماسيح» حتى يبيّن للمغاربة أن محاربة الفساد ليست بالسهولة التي يتصورونها، وها هو قد عاد هذه الأيام لكي يستعمل عبارات أخرى تقترب من حكاية الراية البيضاء، إذ قال في تصريح سمعه كل المغاربة: «الفساد هو من يحاربني، ولست أنا من يحارب الفساد».
المغاربة الذين صوتوا على حزب بنكيران من أجل أن «يحكم»، كانوا يعرفون أن الفساد لا يرفع أبدا الراية البيضاء، وأن من يعتزم محاربته عليه أن يتصور نفسه جنديا في حرب جهنمية لا حظ فيها للنصر المطلق، لكن من أتونها يولد الأمل.
بنكيران لن يخرج من الحكومة بعد نهاية ولايته الأولى، بل سيستمر لولاية ثانية، وهذا أكثر من أكيد، لذلك فإن سنوات أخرى طويلة باقية أمامه لكي يبارز الفساد في جولات لاحقة؛ ولن يسمح له المغاربة بتكرار عباراته الانهزامية مرة أخرى، لأنه لم يأت من المريخ، بل هو سياسي مغربي أمضى سنوات طويلة في المعارضة وخبر المعتقلات ومحاضر البوليس وسياسة العصا والجزرة، لذلك يفترض أنه يعرف جيدا طبيعة الفساد في هذه البلاد، فلو أننا استوردنا رئيس حكومة من كندا، مثلا، وأعلن انهزامه أمام الفساد لتفهمنا ذلك، أما أن ينهزم من هو أعرف الناس بخبايا الأشياء فهذا ما لن يقبل به أحد.
المشكلة أن بنكيران أبان عن نقاط ضعفه منذ بداية المعركة، فهو صاحب مقولة «عفا الله عما سلف»، وهو الذي تخلى عن كثير من صلاحياته التي منحه الدستور الجديد إياها، مع أن الدستور الجديد فرضته تحركات مغاربة كثيرين خرجوا يرفعون قبضات الغضب ضد الفساد.
وفي بداية عمر حكومة بنكيران شاهدنا كيف انهزم الرجل بالضربة القاضية أمام موظفة في القناة الثانية اسمها سميرة سطايل، حيث نادرا ما نرى رئيس حكومة يدخل في أشواط من «المْعيور» مع موظفة في تلفزيون، لكن هذا يحدث في المغرب!
وفي أولى مراحل عمر حكومة بنكيران، رأينا وزير الاتصال الشاب، مصطفى الخلفي، وهو يرفع قبضة المقاومة والتغيير، حتى بدا للكثيرين أن التلفزيون المغربي سيعرف ثورة ما بعدها ثورة، بل إن الوزير هدد بالاستقالة إن هو فشل في مسعى التغيير، وفي النهاية استقال التغيير وبقي الوزير.
وهذه الأيام، نرى وزير التجهيز، عزيز الرباح، وهو يتأوه ويتألم لأنه فشل في شيء بسيط كان المغاربة يعتقدون أنه أسهل من شرب الماء، وهو استرجاع رخص النقل التي مُنحت للكثيرين دون وجه حق في إطار اقتصاد الريع. الوزير الربّاح رفع الراية البيضاء في أول امتحان بسيط وقال إنه فشل في استرجاع رخص النقل، وإن رياضيين وفنانين استعطفوه وقالوا لهم إنه بذلك سيحرمهم من لقمة عيشهم، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن من يفشل في استرجاع رخص النقل لن يستطيع أبدا رفع الرأس أمام كبار رموز الفساد.. يعني «مْشات على عينكم ضْبابة يا لْمغاربة».
حتى وزير «الكرّاطة»، محمد أوزين، كاد يبقى في مكانه رغم الفضيحة المجلجلة لملعب الرباط، وعندما تمت إقالته لا أحد تجرأ وطالب بفتح تحقيق حول أزيد من عشرين مليارا ذهبت في إصلاح ملعب تحول إلى بركة ماء عند أول زخة مطر.
هذا مجرد غيض من فيض ومجرد أمثلة على رؤوس الأصابع من بين حالات كثيرة جدا جدا، لكن لا أحد يتعظ، ولا أحد يريد أن يعترف بأن مسمار الفساد قد وصل إلى العظم، وأن الفساد، تلك الجرثومة التي تتسلل إلى داخل الجسم وتنهشه قطعة قطعة فيصبح مجرد جثة تنتظر الدفن، قد.انتصر
محاربة الفساد تقتضي شيئين أساسيين: الأول أن يتصف بنكيران بالشجاعة والرجولة؛ والثاني أن تساعده الأجهزة العميقة للدولة؛ وإذا لم يحدث ذلك، فليس هناك سوى الانهيار التام والسقوط الشامل والفوضى العارمة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
%d مدونون معجبون بهذه: