“المغرب الموريتاني” أو “موريتانيا المغربية”.. جرح الجيران المفتوح
شيء من التاريخ:
بعد تسليم المغرب إلى الاستعمارَيْن الفرنسي والإسباني، من لدن السلطان عبد العزيز (عبر إغراق البلاد في الديون) وشقيقه عبد الحفيظ بمقتضى معاهدة الذل والخيانة (معاهدة فاس 30 مارس 1912) التي وقّعها السلطان عبد الحفيظ، وخلْعه بعد ذلك وتعيين أخيه يوسف مكانه (كان الوطنيون يسمونه سلطان النصارى)؛ حيث كان الوسط والجنوب (موريتانيا الحالية) تحت الاستعمار الفرنسي، في حين كانت منطقة الشمال والصحراء الجنوبية في المغرب حاليا تحت السيطرة الاستعمارية الإسبانية، مقابل خضوع منطقة طنجة لاستعمار دولي (منطقة دولية مساحتها 343 كيلومترا مربعا، تحيط بمدينة طنجة المغربية في غرب شمال المغرب تحت إدارة مشتركة بين بريطانيا وفرنسا وإسبانيا، وفيما بعد: البرتغال، وبلجيكا، وهولندا، والسويد والولايات المتحدة الأمريكية).
وإضافة إلى هذا السبب الكارثي الأول ممثلا في خيانة عبد الحفيظ وتسليمه المغرب إلى أسياده الفرنسيين، فإن الحسن الثاني “أكمل الباهية” حين وجه ضربة قاضية إلى الحركة الوطنية وجيش التحرير في جنوب المغرب وسلّم مطار أكادير سنة 1958 إلى قوات الاستعمار الفرنسي-الإسباني المشترك لتشطيب جيش التحرير في الجنوب، بقيادة المجاهد محمد بنسعيد أيت يدر الذي كان قد حرر معظم أراضي الصحراء الحالية وجزءا كبيرا من موريتانيا الحالية.
حكى لي الأستاذ بنسعيد أيت يدر بمرارة، في لقاء طيول معه، كيف أن إسبانيا طلبت منهم فتح حوار معها لترتيب عملية انسحابها من جميع المناطق التي تحتلها في الصحراء مقابل ضمان الالتزام بعدم المطالبة بسبتة ومليلية والجزر المتوسطية المغربية المحتلة في الشمال؛ لكن طعنة عملية “المكنسة” عصفت بتحقيق حلم توحيد المغرب في تلك اللحظة وعدم الوقوع في خطايا تدبير ملف الصحراء الذي لا نزال ندفع أثمنة باهظة له حتى اليوم.
لقد كان من تداعيات ضرب جيش التحرير في الجنوب استمرار الاحتلال الإسباني في الصحراء بأريحية لا تُضاهى، وكذا قيام الاستعمار الفرنسي بإقرار تقسيم المغرب إلى كيانين هما المغرب و”الجمهورية الإسلامية الموريتانية” في السنة نفسها حتى قبل حصول موريتانيا على استقلالها بشكل رسمي سنة 1960.
ولم يشفع للمغرب انعقاد قمة تستهدف التنسيق من أجل إنشاء منظمة الوحدة الإفريقية بالدار البيضاء (قبل تأسيسها الرسمي في إثيوبيا سنة 1963)، حيث حضر الزعيم جمال عبد الناصر إلى المغرب في أول زيارة له، استُقبل فيها استقبال الأبطال سنة 1960، إضافة إلى زعماء أفارقة آخرين كانوا يمثلون دول إفريقيا التحررية مثل كوامي نكروما ومُودي بوكيتا وأحمد سيكو توري وأعضاء من الحكومة الجزائرية في المنفى حينها، حيث صدر عن ذلك الاجتماع قرار يدعم مواقف المغرب المطالبة باستكمال وحدته الترابية وضمنها موريتانيا؛ وهو القرار الذي رفضته المجموعة الإفريقية التي كانت تتحكم فيها فرنسا.
ليظهر فيما بعد أن ذلك التقسيم كان جزءا من اتفاقيات “إيكس ليبان” المشؤومة التي طالما أعلنت رموز واسعة من الحركة الوطنية رفضها (مثل الزعيم محمد عبد الكريم الخطابي والأستاذ علال الفاسي والمناضل محمد الفقيه البصري ثم الشهيد بنبركة فيما بعد)؛ لأن الحسن الثاني كان منشغلا ببناء نظام قمعي يكون قادرا على التحكم فيه بدل أن يكون همّه هو تحرير الوطن كله. فكان الذي كان وبقية القصة معروفة، يرويها بتفصيل المناضل محمد الباهي ولد حرمة، ابن شنقيط التي غادرها على أقدامه مدافعا عن وحدة الديار والوطن في المغرب التاريخي، منذ أن أسسه المرابطون الملثّمون من بني صنهاجة الذين وصفهم الشاعر الأندلسي أبو حامد (المعروف بالكاتب حين مدح دولة المرابطين وكان أمراؤها صنهاجيين) بقوله:
قومٌ لهم دركُ العُلا من حِمْير # وإن انتموا صنهاجة فهمُ همُ
لما حَوَوْا إحراز كل فضيلة # غلبَ الحياءُ عليهم فتلثموا
وهم، بالمناسبة، قادمون من تخوم شنقيط لتأسيس الدولة المرابطية وتأسيس مدينة مراكش واتخاذها عاصمة لدولتهم التي ضمت غالبية مناطق المغرب العربي الكبير باستثناء الساحل الليبي حاليا، وكانت حدودها من نهر السينغال جنوبا وجبال الألب الفرنسية شمالا، حيث ضمت الأندلس والمحيط الأطلسي غربا وبلاد السودان شرقا.
الواقع وحدود الحلم:
الآن وقد أصبحت موريتانيا (في الأصل اسم استعماري، حيث يفضّل أشقاؤنا هناك اسم شنقيط) دولة مستقلة، فإن التذكير بالتاريخ لا ينبغي أن يزعج أحدا، فقط قد يكون محرجا بسبب أن مصدر التذكير هو شخصية مثل السيد حميد شَبَاط، قليلة الارتباط بإرث استقلالي غني بالنضال والاجتهاد.
لكن في كل الأحوال، لم يكن رد الدولة حكيما بما فيه الكفاية، وهي التي لم تعمل أي شيء لربح موريتانيا حتى تكون أقرب إلى الموقف الوحدوي للوطن المغربي، أو على الأقل تضمن لها أن تعيش على الحياد.
الدولة العميقة، أو القصر الذي ينتقد حديثا عابرا للأمين العام لحزب الاستقلال، كان بإمكانها أن تقوم بما هو أجدى لو أسهمت في دعم الأشقاء في موريتانيا بما هو مفيد ودائم. وفي عملية بسيطة يمكن القول إن استثمار مبلغ 700 مليون دولار سنويا في موريتانيا كان سيجعل هذا البلد عمقا إستراتيجيا حقيقيا للمغرب تذوب عبره قضية الصحراء بشكل ناعم (وهو رقم يوازي مبلغ 255 مليار أوقية موريتانية الميزانية التي خصصتها السلطات الموريتانية للاستثمار السنة الفارطة، كجزء من ميزانية موريتانيا العامة التي تبلغ حوالي 1.5 مليار دولار أمريكي). إنه مبلغ يشكل أقل من جزء من ثلاثين جزءا من ميزانية المغرب بلغة الأرقام.
يُضاف إليها تقديم عدد يتراوح بين ألف وخمسة آلاف منحة سنوية على الأقل لطلاب موريتانيين للدراسة في الجامعات المغربية (عدد الطلاب في موريتانيا كلها هو حوالي 10 آلاف طالب)، كنا سنكسب عقول وقلوب الأشقاء الموريتانيين، عبر عملية تبادل المنافع التي تحمي الوحدة المغربية (تجعل من مشكلة الصحراء شيئا من الماضي) والتعاون البناء بين بلدين شقيقين يمثل كل منهما عمقا إستراتيجيا وحضاريا للآخر، مثلما يسهل علينا بناء المغرب العربي الكبير.
وبعدها، يمكن الاهتمام بإفريقيا البعيدة؛ فالجار أولى بالاهتمام.. وإن كان الاهتمام به سيكون مفيدا في حل مشكلة الصحراء، فالاهتمام به يكون أوجب الواجبات.
رب ضارة نافعة، قد تكون الواقعة الأخيرة مدخلا لاستعادة الوعي المغربي بأهمية التلاقي المغربي الموريتاني من أجل مستقبل وحدوي يراعي العصر بين الكيانين الذين قسمهما الاستعمار الفرنسي، وكَرَّسَتْهُما أنظمة ما بعد الاستقلال ونُخبها الفاشلة؛ لكن هذا لن يتحقق بشكل كامل إلا بانتقال النظامين في البلدين إلى ديمقراطية كاملة غير منقوصة، بما يجعل من كيانين يتوفران على الشخصية القانونية والاعتراف الكامل وفقا للقانون الدولي يؤسسان لواقع جديد، قد يكون “المغرب الموريتاني” أو “موريتانيا المغربية” أو “مملكة نوميديا المغربية”، كما سماها ذات تأملات الأستاذ حسن أوريد، حيث إن الثمن الذي ينبغي أن يدفعه النظامان للوحدة والتلاقي يبقى يسيرا مقابل ما يدفعه الشعبان من أثمان باهظة في لحظات الصراع والتشتت. إنه السير على طريق إقامة ديمقراطية حقيقية تنتصر للشعبين اللذيْن يتمثلان العلاقة بينهما علاقةً بين شعب واحد.
في حوار لي مع الشباب المشارك في مخيم الشباب القومي العربي المنعقد في تونس العاصمة الصيف الماضي، تحدثت عن ماضي العلاقات بين حركات التحرر الوطني التي كان يوجهها ويشرف عليها الزعيم محمد عبد الكريم الخطابي من القاهرة عبر “لجنة تحرير المغرب العربي”، وكيف أنها ضمت قيادات من المغرب وتونس والجزائر، فسألني أحد الشباب الموريتانيين الحاضرين في المخيم عن موريتانيا حينها، فأخبرته بأنها كانت جزءا من المغرب، فغضب من جوابي؛ لكن حين ذكرته أن المرابطين الذين أسسوا أقوى دولة في تاريخ المغرب جاؤوا من الجنوب أي من شنقيط، استقبل جوابي بحفاوة تتجاوز سوء فهمه لما أوردته من معطيات.
فمن يجرؤ على رسم الفرحة على مُحيَّا الشعبين بتقديم رؤية متكاملة للتلاقي والاندماج، الذي يحقق معادلة الربح لهما معا؟ سؤال يبدو أن النخبة في البلدين ليس لها جرأة اجتراح الإجابة عنه قريبا.