قضـــايا المسرح الحســــاني
بقلم: اسليمة امرز
إن الحديث عن فن المسرح بكل توجهاته و أنماطه في الصحراء، حديث يلامس مكونا من مكونات الثقافة الحسانية الحديثة ، نظرا لما يتبوأه من مكانة هامة و متميزة ضمن أشكالها وأنماطها المختلفة، و لما يحتاجه خصوصياته الإنتاجية من مساهمة الجماعة في تشكيليه إبداعيا ، عبر مختلف مراحل و عناصر المسرح، بدءا من المؤلف، إلى المخرج، والممثل والسينوغراف، و الموسيقى، و التقني، وصولا إلى المتلقي (القارئ،المتفرج،الناقد) الذي يشكل عصب الظاهرة المسرحية. فالمسرحي الحساني لن يوقع حضوره إلا من مدى تفاعله مع طموحات هذه الجماعة و قدرته على عكس سننها فنيا…
استمرارا لهذا الفهم، فهذا المسرح لا ينبغي إلا أن يكون فنا غنيا و متنوعا و مسايرا لتحولات المجتمع و حركيته… ضاربا في أعماق المدى و جذور الذاكرة الجمعوية ، و ناطقا بهمومها و انشغالاتها، و معبرا عن أمالها و ألامها ، ومساهما في صيغة تساؤلات أنطولوجية عن حقيقة وجودها و مصيرها… لذاك وجب أن تكون مؤسساته دينامية و متحاورة مع جماهيرها، و لكن و بالنظر إلى راهن هذا الغنى الذي لا يزال يصارع من أجل فرض هذه المكانة المفترضة في الحياة العامة، الا أنه لا يزال يعاني العديد من الاختلالات والمعوقات التي تحد من مقدرة هذا الفن على إدراك مثل هذا الدور الحضاري المفترض .
إنها اشكالية واحدة تتفرع إلى العديد من الأسئلة ، لم يعد بالإمكان تخييبها، أسئلة ذات صلة وثيقة بمختلف جوانب هذا الفن، التشريعية و الإبداعية و التواصلية ،إضافة إلى الجانب السوسيوثقافي، ما دام المسرح مؤسسة متشبعة الاختصاصات و التخصصات، تساؤل يفرض نفسه بالأساس ضرورة النظر في قضايا هذا المسرح و تشريحها.
1- قضايا المسرح الحساني :
ليس بالإمكان حجب بعض الاشتراقات المحلية في مجال المسرح ، و التي تمكنت من تحقيق بعض التحولات الإبداعية،عبر ممارسات متواضعة، مكنت من تحريك عجلة الإبداع و خرق أفاق الوعي الجمالي السائد و تشكيل أنماط إبداعية مبتكرة غيرت منظور متلقيها لكل مكونات الوجود، غير انها اشراقات لا تلغي جملة من القضايا التي تطوق هذا الفن، و تقف حاجزا في وجه مسيرته و ضد طموحاته…، قضايا يمكن إيجازها كما يلي :
1-1 المسرح الحساني … خلل تاريخي :
إذا كان لابد من سمات تميز الفن المسرحي، فهي أنه ظاهرة إنسانية ملتصقة بالناس و متولدة بينهم، فحيثما يلتقي الناس ينشأ المسرح، كما يتميز بطابعه الشمولي لاحتوائه لكثير من الفنون، منها ما يتصل بالإشارة و الحركة، ومنها ما يتصل بالرقص و الموسيقى، و منها ما يتصل بالرسم، ومنها ما يتصل بالكلمة/ الأدب. و على هذا تكون عملية بناء تصور تاريخي لأي ظاهرة فنية كالمسرح رهينة بمدى استيعاب المؤرخين لطبيعة هذا الفن و لسماته الإنسانية و الشمولية ، و التي تخصصه بكونه:
– فن إنساني و كوني من حيث النشأة.
– فن تختلف تمظهراته الإبداعية بحسب سياقها السوسيو- ثقافي.
– فن شمولي يرفض أن يظل حبيس حدود الكلمة/ الأدب.
غير أن المتمعن في العروض المسرحية الحسانية بالرغم من قلتها، يلحظ بالملموس أن المسرح الحساني أو بالأحرى الناطق بالحسانية لا يزال في أولى خطواته في مرحلة التجريب التي أصبحت في خضم الماضي ، و في انتظار الانتقال إلى مرحلة الحداثة و ما بعد الحداثة.
– خـلل البدايــة:
اختلفت الآراء و أقوال المهتمين بالمسرح الحساني في تحديد بداية المسرح في الثقافة الحسانية وفي محيطها الجغرافي، فمنهم من يرى أن المجتمع الحساني عرف المسرح في نهاية السبعينات وبداية الثمانينات من القرن الفارط، و ذلك انطلاقا من ايفاد فرق مسرحية من المدن الشمالية إلى الصحراء، والتي قامت بجولات مسرحية لاقت نجاحا كبيرا و استحسانا من لدن المتلقي الحساني، بهذا يرى هؤلاء أن المجتمع الحساني عرف المسرح منذ ذلك الزمن، لكن تأخر في ممارسة فعل المسرح لأسباب يأتي في مقدمتها انتقال المجتمع الحساني من حياة البادية إلى المدنية، إضافة إلى أخرى سياسية و اقتصادية و ثقافية، و ينزح آخرون إلى تحديد بداية المسرح في سنة 2004 و تحديدا مع انطلاق بث قناة العيون الجهوية، هذه تواريخ حركتها أحيانا اعتبارات ذاتية-أكثر منها موضوعية- مما جعلها من حيث الدقة و المنشأ تختلف من مهتم لأخر، بحيث يحاول البعض إخضاعها بالقوة وليس بالفعل إلى الحيز الزمني الذي يراه الأنسب طبقا لفهمه أو لحاجياته التي قد تسبب له في إنتاج مسرحي من مؤسسة تلفزية ، غير مبال بالخلل التاريخي الذي تتسبب به جرات الأقلام بشكل لامسؤول و لاموضوعي. أما البعض الآخر- المتمثل في المسؤولين بدور الشباب و المديريات الجهوية للثقافة- يرى أن المسرح كان موجودا بالمنطقة منذ القديم و يحاججون على زعمهم بوجود ما يسمونه بقاعات للعروض المسرحية بمؤسساتهم، على الرغم من الغياب التام لقاعات العرض المسرحي بالمواصفات المعروفة و الشروط اللازم توفرها من أجل إنجاح العرض المسرحي.
كل هذه الآراء و الأقوال بعيدة تمام البعد عن التأريخ الفعلي للمسرح في المنطقة، فالمسرح فن أشمل من البنايات والستارة و الكراسي و الإضاءة. إلى حد يمكن إن تغيب كل هذه المكملات، ولكن لا غنى عن مكونين أساسين : المحتفل- المبدع ( الممثل) والمشارك ( المتلقي)، يقول المخرج الكبير ماكس رينهارت Max Reinhardt ” إن كتاب المسرح و الممثلين و المؤلفين و الموسيقيين و الرسامين و المخرجين و النقاد، و مدراء الأقسام الأوروبيين لا يشكلون وحدهم مسرحا. المسرح يوجد عند توفر طرفين، ذلك الذي يمثل و ذلك الذي يتفرج ( و كلاهما يستطيع البكاء على هيكوب) و بقدر موهبتهما يزدهر أو يتقوض فن المسرح…”1
لقد كان من شأن غياب مثل هذا الفهم الشمولي لفن المسرح لدى بعض المهتمين بالمسرح في الصحراء، ان أثر بشكل سلبي على فهمنا لجوهر المسرح الحساني، و طبع تاريخنا المسرحي بالضبابية، قد يكون هذا التاريخ متواضع للغاية، لكن الأهم أن نأتي على الأمور كما هي، و لا نساهم بتزيينها من خلال جرة قلم أو حديث عابر، فالتاريخ ملك للشعوب يصنعه رجال و مبدعون، ليبقى مفخرة للجميع، إضافة إلى تصنيف أنماطها و أشكالها الفر جوية الشعبية في خانة “الأشكال ما قبل المسرحية” كنوع من عملية التخلص الغير المبرر من هذا العبئ الذي ما زلنا عاجزين عن تحقيق كفاية تفسيرية بخصوصه، و بهذا أصبحنا أمام تاريخ مسرحي متناقض تحكمه مرحلتان :
– مرحلة ما قبل تاريخ المسرح الحساني ( الأشكال ما قبل المسرحية )
– مرحلة ما بعد تاريخ المسرح الحساني، و تبتدئ عند البعض مع سنة 2004 مع التركيز على بدء بث قناة العيون الجهوية ، كإعلان بداية للمسرح الحساني كما حددها البعض الآخر في نهاية السبعينات و بداية الثمانينات و ذلك أثناء زيارة بعض الفرق و الفعاليات المسرحية من المدن الشمالية إلى المنطقة .
1-2 خــلل غيــــاب العـــرض:
يفيد الفحص الإجمالي للخطاب التاريخي حول المسرح في الصحراء في جل تصوراته أنها ظلت حبيسة النص المسرحي، تبحث في بدايته و تؤرخ لمراحل تطوره بمعزل عن أدنى اهتمام فعلي بمكونات العرض المسرحي( نشأته – مراحل تكونه…)، بحيث أصبح تاريخنا المسرحي تاريخا للنص ( أثناء مكتوب، واثناء أخرى شفهي مجرد أفكار متناثرة …)، لا تاريخا للنص والعرض، وهو ما طبعه بمظهر نسبي يكمن في غياب العرض. ولا نعتقد بأن هذه الوضعية مقتصرة على تاريخ المسرح في الصحراء أم المسرح المغربي في سنوات فارطة ، فتاريخ المسرح العربي في مجمله كان تاريخا للنص المسرحي بامتياز، كما أن تاريخ المسرح العالمي ظل الى عهد قريب تاريخ للمؤلف المسرحي ، بحيث لم يتركز الاهتمام بالعرض والاخراج إلا في آواخر القرن التاسع عشر.
و إذا كنا نجد سابقا مبررات لاستمرار مثل هذا الوضع، فإن كل هذه المبررات تنتفي اليوم بالنظر إلى جدة التصورات التي مست حقلي التنظير و النقد المسرحيين، إذ لم يعد بإمكاننا النظر إلى الفن المسرحي إلا في شمولية مكوناته الإبداعية ( نص/عرض) يقول الدكتور عز الدين بونيت في كتابه : ” فالمسرح يصير يوما عن يوم أقل إخلاصا للأدب، و أكثر استقلالية بقارئه ، مما يجعل التناول الأدبي للأعمال المسرحية ضربا من المجازفة يضاعف من الصعوبات التي تقوم عادة في وجه نشوء خطاب نقدي منتظم و خالص لوجه المسرح “2
1-3 الخـلل المنهجــي:
ينعكس المظهر النسبي لتاريخ المسرح بشكل آلي على مكونات الخطاب الواصف لآليات اشتغاله، إذ نادرا ما يتم الاهتمام بمناهج تحليل العروض المسرحية. فإذا ما تجاوزنا التغطيات الصحفية المواكبة للعروض و الأنشطة المسرحية، لا نجد أي دراسة اهتمت بالتنظير لمناهج تحليل العرض، أو تطبيق مثل هذه المناهج على عروض مسرحية بعينها، وهو ما كان له تداعياته السلبية حول قصور اللغة الواصفة في معالجة نظام علامات العرض المسرحي الحساني.
إن عدم النظر إلى المسرح الحساني في سياقه الفر جوي الحي و المباشر و الاقتصار فقط على تناول النصوص المكتوبة التي غالبا ما تبقى في الرفوف، يجعل من تصوره مجرد مادة درامية- أدبية معزولة تماما عن الممارسة، ومن ثم قاصرة عن تفعيل هذه الممارسة والرقي بها إلى الأمام. و لذلك تغدو مثل هذه التصورات عقبة في وجه تطوير المسرح عموما، ما دامت مناهجها بعيدة عن تحقيق إدراك متكامل لكل مكوناته ( الدرامية و المسرحية (. إن المسرح لا يوجد للقراءة إلا في حدود ضيقة. وهي حدود
ليس بوسعها أن تلخص كل السياق التواصلي لهذا الفن ما دام المسرح فنا للمشاهدة. بل إن تجاهل فن العرض كقطب مركزي في هذه الظاهرة إنما هو تجاهل لطبيعة هذا الفن و لوظيفته. فالفعل المسرحي لا يستمد خصوصياته إلا من حيوية اتصاله بجمهوره، وانخراط هذا الأخير في تماه مستمر مع المؤدين( المخرج،الممثلون…) لبناء الحدث.
2- المسرح الحســانـي…خلل قانوني :
يعيش المهنيون المسرحيون بالمغرب بشكل عام مأزقا اجتماعيا صعبا. إذ أنهم لا يفتقرون فحسب إلى حقوق مادية تتناسب والدور الذي يؤدونه للمجتمع، بقدر ما يعوزهم الاعتراف الرسمي بهم و مهنتهم شأنهم في ذلك شأن كل ” الشغيلة،الثقافية” في المغرب. فالمسرح الحساني ما يزال يتخبط في عديد المشاكل ،التي جعلته يبقى راكنا في حيز الجمود. ونذكر من هذه المشاكل كونه لا يتوفر على تشريعات محددة لوضعيته القانونية ما يفصح عن المكانة الهامشية التي يحتلها ضمن المخططات التنموية ، بحيث يتم إقحام هذه الممارسة- بالقوة- ضمن العمل الجمعوي التطوعي المنتظم وفق قانون الحريات العامة ( ظهير 1958) والمتمم بعد ذلك، مما يلغي من حساباته مسألة العرض و الطلب، أو السعي إلى الاستثمار و الربح الاقتصادي. ومن ثمة تتحدد النظرة الرسمية إلى الإبداعات المسرحية كأعمال تطوعية كجمعيات ثقافية لا كمقاولات للإنتاج الفني.
وإذا كان عقد التسعينات من القرن الماضي قد شهد مناظرة وطنية انكبت حول مدارسة هذه الوضعية وتوجهت برسالة ملكية من المغفور له الحسن الثاني، آنذاك رأى فيها الجميع خلاصا حقيقيا لوضعية التسيب القانوني، غير أن مرور حيز طويل من الزمن دون خروج أي بند منها إلى حيز الواقع يضاعف من هذا الشعور بالإحباط وبعمق الهوة الفاصلة بين وضعية هذا الفن الكائنة كفعل منسي و بين وضعيته الممكنة كفاعل اقتصادي-إبداعي-جماهيري. خصوصا و أن سياسة ” الدعم المسرحي” التي ظهرت إلى حيز الوجود مع نهاية العقد التسعيني حيث لم تستفد الفرق المسرحية الحسانية منها بالشكل المرجو، حيث لم تستفد منه الا فرقتان مسرحيتان ، هما فرقة الأنصار بالعيون، وأخرى من الداخلة .
وفي إطار موسم مسرحي شبه منتظم ، لا يزال الحكم على نتائجها مبكرا و سابقا لأوانه بالنظر إلى حداثتها وفي ضوء ما سبق لا تتمركز هذه الوضعية القانونية الارتجالية كمسألة شكلية بقدر ما تمثل جوهر قضية هذا الفن المرتبطة بوجوده وكيانه و مساره ضمن باقي الفنون. بحيث تحول دون تطوره و ازدهاره و تحد من قيمة إبداعاته، و تجعله بمعزل عن الإطار الحقيقي الذي كان من المفروض أن يكون عليه، و هو ما يعني أن تعميق الرؤية لهذا المسرح، و الاهتمام بتطويره تنظيميا مسألتين متلازمتين لا فيصل بينهما.
3 – المسرح الحسـاني… خـلل وظيـفي :
من خلال زيارتنا لكل المدن بالصحراء، ولقاءاتنا مع الفاعلين الجمعويين بالحقل الثقافي، و المسؤولين في المديريات الجهوية و المندوبيات لكل من وزارتي الثقافة و الشباب و الرياضة تمكنا من حصر الحركة المسرحية في ثلاث مسارات : أولهما المسرح المدرسي و مسرح الشباب الذي ينشط و يرهن أعماله في المسابقات الإقليمية و الجهوية لمسرح الشباب ثم الفرق الهاوية التي ورطتهم النقابة بمنحهم بطاقات الاحتراف، و تتمثل في نماذج ثلاثة في الجهات الجنوبية الثلاث و هي الفرق التي خلخلت معايير الوظيفة الإيهامية للمسرح في الأقاليم الصحراوية و أبرزها : إبداعات ” فرقة الحبشي بالسمارة، و فرقة الساقية الحمراء بالعيون ، و فرقة أنفاس أوسرد بالداخلة ، فقد ظل في الغالب ينظر إلى الإبداع المسرحي، إما :
- · كوسيلة لتغيير الواقع الاجتماعي، و خصوصا بعض الظواهر الاجتماعية السلبية، و الفساد الإداري، كملامسة موضوع الانتخابات المحلية و ما يرافقها من فساد و استعمال للمال… بمعزل عن الاهتمام بالانزياح عن أفق التجربة الجمالية.
- · أو كوسيلة للتسلية و الفكاهة، وهي الوظيفة التي عمقت من واقع تهجين هذا المسرح، مكرسة لشعار مجاني،( ساعة من الضحك المتواصل)
و بالرغم مما قد يظهر من مفارقات بين هاتين الوظيفتين، إلا أنهما يتقاسمان خاصيتان إثنتان، وهما :
- · اتكاء الفعل المسرحي و فقهما على نمط واحد من التلقي الأفقي الذي يقنع من خلال المتلقي بتتبع البنية الخطية للأحداث دون المساهمة في بنيتها. مما يعني اندراجهما معا ضمن نوع واحد من المسرح الإيهامي الذي يقوم على الاندماج التام بين بنيتي التأثيرات و التجارب، بحيث تنتفي ملامح بنية تأويلية تحين الموضوع الجمالي للعمل المسرحي.
- · افتقار الفعل المسرحي في الصحراء إلى رؤية اجتماعية- فنية تمتلك القدرة على تحرير متلقيها من تكييفات الأحكام الوجودية السائدة، و الأنماط الفنية المرجعية، بحيث يصوغ معها إدراكا جديدا و متجددا لواقعية التجربة الجمالية.
في ضوء هذه الإستراتيجية الإيهامية، سعى كل المحتفلين: ( المبدع والمتلقي ) إلى المعادلة بين الإبداع المسرحي و معايير الحساسية المبتذلة، بحيث ظلت جل الأعمال المسرحية وصفية و لا تحمل أي جديد. أما التجارب التي تبنت مسارا مغايرا تمثل في طرق الأبواب الموصدة و ملامسة المواضيع الاجتماعية الحساسة و التي حازت على سخط الدوائر الرسمية لعقوقها كما يقال وما أسميناها بالتجارب الانتقالية بمفهومها الثقافي، فقد خلقت تفاعلا مغايرا مع جمهورها، وتحددت تجلياته الأساسية في :
– اشتراك الجمهور في فعل الإبداع و تحفيزه على تفجير مكبوتاته.
– العمل على عكس حقيقته الاجتماعية بلغة تخرق سمة التبسيط ، أو الاستنساخ الحرفي للواقع.
إلا أنه خرق لم يرقى إلى درجة الفرض المخلخل لإيهامية هذا الفن، و ذلك لعدة مسببات، أهمها:
- · غياب سياسة واضحة لدعم المسرح في الصحراء، وتشجيعه على الاستمرارية.
- · غياب تصورات صناعية بخصوص الترويج التجاري للعمل المسرحي في ظل تنظيمات إدارية ضبابية، تقرن الممارسة المسرحية بالتنظيم الجمعوي الذي يقوم على أساس التطوع و المجانية عوض العرض و الطلب.
- · حرمان التجارب الانقلابية من الدعم المادي لوزارة الثقافة الذي ما يزال حكرا على عروض التسلية و الفكاهة ، إذا ما أخذنا بعين الاعتبار الدور الفعال للإعلام التلفزي في تنميط أذواق الجمهور( والذي تؤديه قناة العيون الجهوية بامتياز) حتى أضحت المعرفة السائدة بخصوص المسرح في الصحراء، محصورة في نطاق النمط التهجيني.
- · ضعف التكوين المسرحي، و انعدام سياسة جهوية للتكوين المستمر.
- · غياب المعاهد و المدارس التي تعنى بالتكوين و التأهيل المسرحي.
- · انعدام الدعم المادي و المعنوي للفرق المسرحية، مما يشل من حركتها و المشاركة في المهرجانات و التظاهرات الثقافية. و لا أجد مثال أبلغ من تجربة جمعية أنفاس أوسرد للمسرح والثقافة التي كانت تقيم المهرجان الوحيد في المنطقة بشكل منتظم، الا ان تخلي القائمين على ادارة الشأن العام في الداخلة من دعم وتشجيع هذا المهرجان الذي يعد المتنفس الوحيد للفعاليات المسرحية الحسانية مما جعل ادارة المهرجان تتخبط في العديد من المشاكل، الأمر الذي انعكس سلبا على انتظام دوراته،
– بالنظر إلى ما تقدم نسجل جملة من الملاحظات حول راهن المسرح الحساني، وهي كالتالي:
1- يعيش المسرح في الصحراء خللا تاريخيا، فالبداية ليست هي البداية، و الرؤية ليست هي الرؤية، و المفاهيم ليست هي المفاهيم، والأداة ليست هي الأداة، مما انعكس سلبا على واقع المسرح في هذه الأقاليم دراسة و تنظيرا ، فما بالك بالنقد الفني لهذه الظاهرة الفريدة في تاريخ و حضارة الشعوب، و ذلك من حيث انعدام تناول شمولي لكل مكونات هذا الفن، ومن حيث انعدام موضوع محدد للتفكير المسرحي الراهن.
2- يعيش المسرح في الصحراء، و الناطق بالعامية الصحراوية ( الحسانية ) خللا قانونيا صعبا ينعكس على وضعيته التنظيمية و الاجتماعية مما يعيق تحريره صناعيا و حرفيا، و يحد من فنيته و يقلص من شعبيته.فرغم التصريحات الرسمية المتكررة بغياب أي قانون مهني ينظم الممارسة المسرحية ورغم صدور عدة توصيات إلا أن العشوائية ما زالت تطبع هذه الممارسة، إذ يمكن تقسيمها إلى :
- · ممارسة مسرحية / ديداكتيكية ، تكمن في الأنشطة المسرحية ( المدرسية) ولا يمكن الجزم بأنها محتضنة من وزارة التربية الوطنية أو الأكاديميات الجهوية للتربية و التكوين، إذ أنها نتاج فعل شخصي لمبادرات الأساتذة و التلاميذ الذين يتحملون عبئها المادي و المعنوي بحيث يجدون في الاحتفالات بالأعياد الوطنية فرصة لعرض أعمالهم، كتعبير عن مشاركتهم في هذه التظاهرات دون أن يجدوا أدنى تشجيع أو دعم من المسؤولين القائمين على السياسة الجهوية في المنطقة.
- · ممارسة مسرحية تنعت بالمسرح الهاوي منذ بدايتها الى يومنا هذا، على الرغم من أن عددا كبيرا من الممثلين في الصحراء يحملون بطائق الاحتراف مسلمة من النقابة الوطنية لمحترفي المسرح. إلا أن هذا الاعتراف لم يشفع لهم لدى الدوائر الرسمية و المسؤولين عن القطاعات المعنية بالشأن الثقافي، ليمكنوهم من حقوقهم. فهم الآن بعيدون كل البعد عن ما يسمى بالاحتراف.
- · ممارسة مسرحية تجارية ( مسرح الفودفيل)، وهي التي تحظى بقبول العرض التلفزي، طبقا لمعايير التي تضعها إدارة القناة التلفزية، وعلى قائمة تلك المعايير أن يكون العرض مفعما بالضحك المتواصل ناهيك عن الموضوع الرئيسي الذي يضعون تحته أسطرا بالحبر الأحمر، مبررين ذلك القرار بمراعاة الطابع المحافظ للمجتمع الحساني ، و العادات و التقاليد، التي لا يسلم منها أي جانب من جوانب الحياة، و الذي ينعكس سلبا على مسار المسرح في هذه المنطقة من خلال التالي :
- · الملابس : تكون محتشمة و تراعي الواقع الأخلاقي للمجتمع.
- · الحوار : يكون ملتزما ولا يخرج عن إطار المتداول.
- · الحركات : لا بأس إن طابقت ما جرت به العادة ( كالرقص بصيغة محافظة)
- · الموضوع أو الحدث: أن يكون مقبولا ولا يلامس الطابوهات من قريب أو بعيد
أضف إلى ذلك الأحكام المسبقة التي يصفون بها الفنان المسرحي خصوصا الإناث منه، فكل هذه العوائق تقف حاجزا منيعا أمام سير المسرح في الصحراء.
لذلك بات اليوم واضحا أن مسألة مستوى المسرح بالصحراء واقعا وممارسته راجع بالأساس إلى مثل هذا الخلط التنظيمي الذي يعيق تطوره. إذ لا معنى لفصل هذا الفن.
عن تنظيمه المؤسساتي في ظل مجتمع مدني يقوم أساسا على مفهوم المؤسسة.
3- يعيش المسرح الحساني خللا وظيفيا- تواصليا، من حيث تهميش دور المتلقي في عمليات الإنتاج، و الاقتصار على مخاطبته كمستهلك لقصدية مرجعية، مما قلص من حدود تجربة هذا المسرح الجمالية.
وإذا كانت الملاحظات أعلاه لا تلغي بعض إشراقات هذا المسرح التي حددناه آنفا في بعض التجارب، إضافة إلى ظهور جمعيات ثقافية تعني بالمسرح ، و التي قدمت خدمات محمودة للمسرح الحساني .
غير أن ذلك لا يمنعنا من التساؤل :
أليس المسرح في الصحراء اليوم، و أكثر من أي وقت مضى، بحاجة ماسة إلى إعادة النظر في بعض المسلمات السائدة بخصوص تاريخه و طرق الفهم السائدة لمكوناته…؟ و بالتالي النظر إليه بنظرة تؤسس لفهم مغاير و منسجم يحاكي الممارسات المسرحية الحداثية، نظرة تقوم من داخل حدود هذا الفن لتصوغ إدراكا مستقبليا لأفاقه.
– المراجـــع:
– 1 – تمارا الكساندروفا بوتيتسيفا، ” ألف عام و عام على المسرح العربي” ترجمة توفيق المؤذن،دار الفارابي بيروت 1981 ،ص31.
– 2 – عز الدين بونيت ” الشخصية في المسرح المغربي(بنيات و تجليات)” منشورات جامعة ابن زهر كلية الآداب و العلوم الإنسانية أكاد ير 1992-ص 12.