روبورتاج.. قصبة “أكادير أوفلا”.. ما نجا من الزلزال يشكو الإهمال
كثر الحديث عن التراث اللامادي، لكن ذلك الكلام لا يترتب عليه أن الجميع يدرك قيمته ورمزيته ونفاسته. فأن يكون لك إرث من الأجداد أبدعوه بنفيس أفكارهم، وقصبات عمروها بأعمالهم، ومزارات تفيؤوا ظلالها، وقصور كانوا فيها فارهين، لا يعني بالضرورة أن للأحفاد القدرة على استثمارها وتنميتها والرقي بها أو حتى صونها عن عوامل الاندثار، تلك هي حال مأساة قصبة من قصبات المغرب هي قصبة “أكادير أوفلا” التي تُركت تواجه مصيرها المجهول، تمحقها عوامل الطبيعة، وتدمرها العوامل البشرية، وتسحقها عوائد الدهر.
رغم تواجدها في مدينة أكادير السياحية لا تزال قصبة “أكادير أوفلا” التي أنشئت عام 1540 بعيدة عن خطط التحويل إلى منطقة جذب سياحي وثقافي، فهي اليوم تشكو من عوامل الخراب والتخريب، التلاشي والاندثار.. لم ينفعها لا موقعها الجغرافي المتميز، ولا تاريخها الضارب في القدم، ولا مكانها الاستراتيجي لتحصل على نصيبها من إصلاح هيكلي يعيد لها توهجها ويرقى بها إلى مصاف نظيراتها في المغرب والأندلس وتركيا والعالم ككل.
فصول المعاناة
تنظر إلى القصبة المتربعة على جبل يزيد علوه عن 230 مترا، فتجلبك إليها جلبا، وتأسرك بجمالها أسرا، فتجذبك بعنفوان لتأتيها إما راكبا في طريق معبدة تسلكها وسائل النقل المختلفة، أو ماشيا في طريق مبلطة متعرجة، أو سالكا مسالك وعرة بين أحراش خطها رعاة الماشية وهواة التسلق بين الفجاج. ما إن تطأ قدماك أرض القصبة حتى تنعم برؤية صورة شاملة لأكادير، ترى من خلالها المحيط الأطلسي وتموجاته.. وغابات أكادير المحيطة وتعرجاتها.. وامتدادات الضواحي وتداخلاتها.. وشبكات الطرق وتقاطعاتها، لن تر فيما رأيت من المشاهد الجميلة والمناظرة الفاتنة منظرا أروع ولا أبدع مثله.
ملامح المكان
قصبة تآكل جدارها المحيط الصلد، الذي بناه المغاربة لصد الغزاة، فما اسطاع “البرتقيز” (البرتغاليون) أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا، شقوق وثقوب مخيفة.. أجزاء متناثرة من حائط سميك البنية سُيج اليوم بسياج متهالك دونما ترميم حقيقي يوازي صنيع الأجداد.. نفايات ومخلفات بشرية وحيوانية.. خدوش غائرة على بلاط الحائط خطتها أيادٍ بشرية. تجتمع كل تلك الصور لتشكل عنوانا لصعوبة الظروف التي تعيشها القصبة وترزح في ظلالها.
هكذا تبدو قصبة “أكادير أوفلا” اليوم في صورتها الشاملة، قصبة طمست معالمها، واندرست ملامحها، وتآكلت حيطانها، تشكو لكل زائر مغربي أو عربي أو غربي ما تجده من الإهمال والتقصير.. والترك والتجاهل.. ولكل المترادفات التي للامبالاة صلة بها، فحين تسير داخلها وتجوب عيناك أرجاءها ترى كذلك هوائيات نصبت في فناءها خلال السنوات الأخيرة تشكل نشازا بصريا، يتراءى للعين المجردة فور تسليط النظر على هذه المعلمة، وتُسبب تشويشا على الذوق الجمالي للموقع الأثري، فتتسابق الأسئلة إلى الأذهان في محاولة لفهم وتفسير كل ما تراه الأعين عن سبب كل هذا الإهمال.
مرارة وآمال
مرارة الإهمال تلك يجدها كل معاين لهذا الإرث التاريخي، فهذه “فاطمة” في زيارتها الأولى للقصبة تقول في تحسر “مما يبدو لي من الوهلة الأولى عبر معاينتي خارج القصبة أن هناك تدهورا في بنيتها يتجسد في حائطها الذي تعرض للخراب بتساقط أحجاره، مما يظهر عدم الاهتمام بهذه الإرث باعتباره قلعة سياحية، كما يعتبر تراكم الأزبال في عدة أماكن مظهرا آخر يوحي بعدم الاهتمام بهذه المعلمة التاريخية، ما يدل على أن ليس هناك من يتحمل مسؤولية جمع هذه النفايات التي تؤدي إلى تلوث المنطقة”.
رغم ذلك كله تعتقد “فاطمة” بإمكانية تغير وضعية القصبة قائلة ل”التجديد”، “أعتقد أن هناك إمكانية لتكون للقصبة وضعية أفضل باعتبارها توجد بمدينة أكادير التي نعتبرها مدينة سياحية، ونظرا للزوار الذين يتوافدون عليها كما ألاحظ الآن، إذ هناك زوار من المغاربة والأجانب. فأعتقد أنه لو تم تحسين هذه المنطقة وإصلاح وترميم ما هدم وما اندثر فسيكون هناك وفودا أكبر وزيارات أكثر”.
وتلتفت “فاطمة” ناحية الهوائيات المنصوبة في فضاء القصبة لتشجب نشازها عن فضاء المعلمة التاريخية قائلة، “في الحقيقية لما نلاحظ تواجد اللواقط الهوائية يوحي ذلك بأن المكان مجرد منطقة مرتفعة ومنطقة جبلية شيدت عليها مجموعة من اللواقط الهوائية، ولا يوحي بأن الموقع قصبة أو معلمة تاريخية يتوافد عليه الناس من أجل التمتع بجمالية المنظر وبتاريخية المكان”.
نحو “الأسوأ”
“القصبة تسير من وضع أحسن إلى أسوء”، هذه شهادة “عبد الواحد” من الرشيدية لخص فيها وضعية القصبة وهو الذي خبر قصتها عبر تردده الأسبوعي عليها لأعوام كثيرة. وهنا تنفس الصعداء ثم قال في حديثه ل”التجديد”، “إن القصبة تعرف تدهورا مستمرا خاصة في أيام الشتاء”. وهنا يسترجع “عبد الواحد” ذاكرته إلى الماضي القريب فيقول “كان هناك حائط يقف كسد منيع على كل من حاول تجاوزه لكنه اليوم تهدم، وآخر إلى الجهة الأخرى تهدم هو أيضا، أما الآبار فقد ردمت ولم يتم ترميم أي شيء بالقصبة إلا ذلك الضريح الكائن في مكان قصي من القصبة”.
“عبد الواحد” المتقاعد بعد عمر مديد من العمل وجد القصبة متنفسا له ولعائلته التي اصطحبها معه للترويح عن النفس من ضغوط المدينة.. ومن هرجها ومرجها، يقول بصوت يكاد يكون مرتفعا “إن استفادة البلاد من القصبة لا يكون بحيطانها المرتفعة، وإنما بإقامة منتجع سياحي بفضائها مع ترميمها لتصبح قطبا مدرا للمال، وأرى فعلا أن الهوائيات تشوه منظر هذه المعلمة ويجب إعادة النظر في نصبها خصوصا إذا تعلق الأمر بشركات”.
“أول حاجة لتطوير القصبة أن نقوم بالإصلاح شيئا فشيئا”، تلك وصفة “عبد الواحد” لتطوير القصبة، ثم يردف وقد تغيرت ملامح وجهه قائلا “وأول حاجة يجب القيام بها منع أصحاب السكر العلني، فهذه مآثر تاريخية يتوجب علينا الحفاظ عليها كتراث وصلنا أبا عن جد، والمشكل أن المواقع التاريخية ومنها “أكادير أوفلا” تجدها ملاذا لمجموعة من السلوكات المنحرفة لعديمي الأخلاق، فمن أراد السكر يأتي إلى “أكادير أوفلا”، ومن أراد أن يقوم بشيء لا أخلاقي يأتي إلى “أكادير أوفلا”.. بمعنى يجب أن نبدأ من القضايا التي تتحقق نتائجها في المدى القريب”.
مآثر اندرست
فجأة تحلق الزوار حول لوحة ترشيدية نصبت وسط القصبة، إنها تتعلق بالمشروع العلمي لوزارة الثقافة وجامعة ابن زهر حول “دراسة أركيولوجيا لموقع أكادير أوفلا ورد الاعتبار له”، تحمل صورا تصورية وخرائطية للقصبة وصورة للأساتذة والطلاب الذين اشتغلوا على تلك الدراسة. فيها بيان عن تاريخ القصبة ومآثرها التي اندرست بفعل الزلزال. بجانبها صادفنا (عبد الله) وكان واحدا من مجموعة الشباب الذين اجتمعوا حول اللوحة للتعرف على تاريخها، قال ل”التجديد”، “نحن شباب المغرب لا نعرف شيئا عن الموقع”.
يضيف الشاب البالغ من العمر 26 سنة “هذه المرة الأولى التي أزور فيها “أكادير أوفلا”، ولأن الفرصة لا تسنح لنا دائما بحكم اشتغالنا في جهة الغرب، فقد قمنا باستغلال فترة الربيع لتنظيم هذه الزيارة، والظاهر أن تلاشي الكثير من الأماكن في القصبة ينم عن عدم الاهتمام، وأن هناك نوعا من اللامبالاة، وعدم الاهتمام بالتراث التاريخي والثقافي إما بالترميم وغيره أو في أقصى الحدود الحفاظ عليه دون هدم وتخريب”.
حائط “المبكى”
جمعية بييزاج للبيئة كبرى الجمعيات بأكادير الكبير المهتمة بالبيئة والتراث في توصيفها لحالة “أكادير أوفلا” ترى القصبة في الوقت الراهن مدعاة للسخرية لا علاقة لها بالدعاية السياحية، وتعتبرها “معرضا مفتوحا للأزبال المتنوعة والمصابيح المكسورة والأسوار المنهارة”. وتؤكد أن قلعة أكادير عانت ما يكفي من الإهمال والنسيان بين ردهات التناول الديني والإداري والقانوني والقضائي المعقد، “ما يستوجب تثمينها وترميمها وإعادة تأهيلها”. وتفترض الجمعية أنه لو كانت هذه القصبة بمدينة مراكش أو الرباط أو فاس لتربعت على عرش كبريات المجلات والجرائد وقنوات العالم سياحيا وثقافيا وفنيا، ولكانت منارة أخرى لأشهر المهرجانات الثقافية والعلمية الكونية.
وفي تقريرها الأخضر السنوي تلفت الجمعية الانتباه إلى أن القصبة يمكن تأهيلها بشكل يساهم في تثمين هذا الفضاء التاريخي الوحيد بأكادير عبر إعادة المدافع القديمة إلى مكانها دون نسيان القصبة البرتغالية في الأسفل التي تم إقبارها وإهمالها هي الأخرى، وتضيف الجمعية أن على وزارة الثقافة إنصاف ذاكرة سوس أكادير من خلال هذه المعلمة، وذلك برد الاعتبار إليها كآخر معقل تاريخي بمدينة الانبعاث، وفتح هذا الملف الشائك وإحكام الرقابة والتتبع على أشغال الترميم والصيانة لتتم وفق الضوابط العلمية، عوض أن تبقى المعلمة حائطا للمبكى على الفاجعة والركون إلى الماضي بل يجب استشراف المستقبل لهذه الذاكرة الجماعية والحضارية والثقافية بما يحفظ للمكان ذكراه عبر مختلف الأجيال.
أساس تصنيف الموقع لم يعد قائما منذ الزلزال!
مأساة القصبة التي لا تخطئها عين ناظر قد تستشف بعض فصولها من وثائق حصل عليها “جديد بريس”، منها جواب وزير الثقافة محمد الأمين الصبيحي على سؤال نواب من المنطقة حول القصبة، أكد فيه على أن الأساس الذي صنف الموقع من أجله كتراث معماري وطني حسب ظهير 23 مارس 1944 لم يعد قائما منذ زلزال أكادير 29 فبراير 1960، باعتبار أن النسيج العمراني ونمط الحياة والمعالم المعمارية التي كان النص يهدف إلى صيانتها قد اختفت بفعل قوة الزلزال، وهو ما يستدعي -حسب الوزير- ضرورة العمل على تحيين نص ظهير التصنيف ليعاد تحديد موضوعه من جديد، مع تذكيره أن الموقع يقع ضمن اختصاصات بلدية أكادير باعتباره كان يشكل قبل الزلزال حيا من أحيائها، ولم تتغير وضعيته منذ ذلك الوقت.
وفي ما يتعلق بالهوائيات المنتصبة في فضاء ما تبقى من القصبة، أكد وزير الثقافة في جواب على سؤال كتابي لأعضاء فريق العدالة والتنمية بمجلس النواب، أن كل الهوائيات غير مرخصة من طرف مصالح وزارة الثقافة، وأن إقامة تلك الهوائيات والبنايات وقع خارج القانون ودون مراعاة للإجراءات القانونية والتنظيمية التي تنص عليها مقتضيات المحافظة على المعالم والمواقع التاريخية (قانون 80-22)، وظهير 23 مارس 1944 المصنف للقصبة كتراث معماري وطني، مضيفا أنه باستثناء الهوائيات التابعة للقوات المسلحة، فإن باقي الهوائيات تابعة لشركات خاصة ذات هدف تجاري، ويتعلق الأمر بتجهيزات شركة “اتصالات المغرب”، و”ميدتيل”، والشركة الوطنية للإذاعة والتلفزة”، و”القناة الثانية”.
بلدية أكادير التي رمى وزير الثقافة الكرة في ملعبها، طالبت في دورات سابقة والي جهة سوس ماسة درعة باستصدار قرار عاملي يتم بموجبه إغلاق بوابة قصبة “أكادير أوفلا” بشكل مؤقت من أجل استكمال الأبحاث الأركيولوجيا، وباتخاذ قرار لإزالة المحطات الهوائية والتجهيزات المقامة وسط القصبة وهو ما لم يتم إلى حدود اليوم. وأقرت وزارة الداخلية في جوابها على سؤال كتابي حول “انتهاك موقع قصبة (أكادير أوفلا)، أن موضوع الهوائيات يثار بصفة مستمرة من طرف أعضاء المجلس عند انعقاد الدورات العادية للمجلس، نظرا لما يشكله من تشويه لجمالية هذه القصبة التاريخية وأن جميع الأطراف المعنية يجدر بها التعاون لتجاوز هذا الأمر.