ترسيم الأمازيغية يطرح سؤال حكامة المؤسسات وتغيير الذهنيات
يعتبر ترسيم اللغة الأمازيغية والإقرار بتعدد مكونات الهوية والثقافة المغربية من أهم التحولات والمكتسبات القانونية التي نصت عليها الوثيقة الدستورية لـ2011، والتي تعكس في مضمونها الديمقراطي والحقوقي ورهانها التنموي والنقاش السياسي والمجتمعي الذي أفرزها ويصاحب تفعيلها التشريعي والمؤسساتي، تطورات مسار تدبير قضايا التعدد اللغوي والتنوع الثقافي والهوياتي الوطني، وما يرتبط به من متطلبات الإنصاف والمصالحة مع الذات ومقومات الشخصية الفردية والجماعية، واستقراء تاريخ المغرب والواقع الاجتماعي، وإعمال رؤية اجتماعية وحقوقية في تثمين المشترك الثقافي والوضع اللغوي وتوظيفه في تحقيق التنمية وتعزيز الديناميات المجالية وتحرير الإمكان البشري.
وإذا كانت هذه الرؤية، التي لا تزال موقوفة التنفيذ والتفعيل القانوني والمؤسساتي، تعكس اختيارا استراتيجيا في تناول موضوع اللغات والثقافة المغربية كما يتضح من التنصيص الدستوري وبعض الخطابات الرسمية، وكذا لدى جزء مهم من النخب السياسية والثقافية والمدنية سواء المدركة والمؤمنة بهذا الخيار أو المضطرة للقبول بذلك، فإن جزءا مهما من المدبرين الإداريين والمؤسساتيين وجزءا مهما من المجتمع وشرائحه المختلفة لا يزال مترددا في استيعاب مقاصد هذا الإقرار والتحول وامتداداته، وأثره الإيجابي على الحياة الاجتماعية والثقافية الوطنية والجهوية، بل وعلى النمو الاقتصادي والبناء السياسي الديمقراطي في المستقبل.
ومن خلال تتبع النقاش الدائر حول موضوع الأمازيغية بصفة عامة في صفوف شرائح كبرى بما فيها جزء مهم من المثقفين والتيارات الجمعوية والفئات المتعلمة، خاصة في فضاءات التداول الحرة والإطارات القطاعية وشبكات التواصل الاجتماعي، ومن خلال متابعة الأداء التدبيري للإدارات والمؤسسات خاصة خلال قرابة الخمس عشرة سنة الماضية من الشروع في إدماج الأمازيغية في منظومة التربية والتكوين والإعلام والجماعات الترابية، يتضح أن استيعاب مضمون هذا الخيار الاستراتيجي الذي بدأ منذ 2001 وتوج بالتنصيص الدستوري سنة 2011، وما يرتبط بهما من مقولات خطابية جديدة وإجراءات قانونية خاصة تفعيل الطابع الرسمي للأمازيغية وإدماجها في التعليم ومختلف مجالات الحياة العامة، والانسجام مع مسار التحول وتملكه المجتمعي والديمقراطي، تعترضه عدة عوائق تتراوح بين ترسبات الاختيارات الأحادية والاستيعابية التي اعتمدت في الماضي، وأثرها الثقافي والإيديولوجي وكذا السوسيو-نفسي على الأفراد والمؤسسات، وبين شيوع تمثلات وأراء مغلوطة حول الموضوع ومراميه وتفاصيله.
من المعلوم أن مثل هذه التحولات في مسار تطور المجتمعات الديمقراطية، خاصة فيما يرتبط بتدبير قضايا اللغات والثقافة والهوية، إضافة إلى جانبها السياسي، فهي تندرج ضمن مجالات الحكامة التدبيرية ومسارات التغيير الاجتماعي التي لا تتأتى دائما بالسهولة والسلاسة المطلوبة، كما يؤكد على ذلك الباحثون السوسيولوجيون والمهتمون بعلوم التدبير والحكامة، حيث تتطلب من جهة حسم المداخل القانونية والمؤسساتية في إطار التعاقدات السياسية والدستورية القائمة، ثم مواكبة عمليات الإرساء الأجرأة بتوظيف آليات التدبير والحكامة المعاصرة، ومنها المراقبة والمحاسبة والتدبير بالنتائج، ومن جهة أخرى التحلي بنفس ديمقراطي وحقوقي، وبالعمل الفكري والنقاش المجتمعي البناء والقادر على رفع اللبوس والمغالطات، وتبديد أثر مختلف العوائق الثقافية والإيديولوجية والسوسيو نفسية التي تعترض أو تؤخر المنجز والأثر الملموس على مستوى النتائج والمخرجات.
فيما يخص الحكامة المؤسساتية، من المعلوم أن الإدارة ودواليب التدبير، سواء على مستوى المجالس والمؤسسات المعنية بسن السياسات والتدابير العامة أو على مستوى التدبير المباشر والميداني في مجالات التعليم والثقافة والإعلام والإدارات الترابية والجماعات المحلية…، تشكل سلطة موازية أو عرضانية تخترق بنية الدولة، خاصة في الأنظمة السياسية التي لم تحسم نظام العلاقات والمسؤوليات التي تعتمد في تدبير الشأن العام، والتي راكمت أنماط التسيير واتخاذ القرار التقليدية، خاصة على مستوى حدود مسؤوليات السلطة الحكومية وآليات التتبع والرقابة ووظائف السلطة التشريعية، وضوابط المنظومة الإدارية وقواعد التدبير والتنفيذ الإجرائي وما يرتبط به من آليات التخطيط والتنفيذ والتقويم والمحاسبة.
وفيما يرتبط بمسارات التغيير الاجتماعي والتي ترتبط بشكل وطيد بسابقتها؛ لأنها تؤثر في الذهنيات العامة والسلوكيات الثقافية بما في ذلك مستويات الوعي والإدراك، وقيم المسؤولية والنزاهة والمواطنة، سواء لدى عامة المواطنين أو لدى الأفراد والمجموعات التي تتولى مسؤوليات التخطيط والتدبير، فإنه بالرغم من طابع البطء الذي يكتنف مسار تغييرها وتطويرها مقارنة بالتغيير السياسي وتطور القوانين ذاتها، لأنها ترتبط بمخرجات منظومة التنشئة وتطوير البراديكم السائد والوعي العام في المجتمع ، فهي تتطلب الوضوح في الاختيارات وتجنب كل أشكال التردد واللبس التي تغدي الشكوك وبنية التناقضات في النظرة والذهنية الفردية والجماعية، كما تتطلب توسيع دوائر النقاش والتبادل والمواكبة الفكرية والحقوقية المؤثرة بشكل إيجابي في تطور الوجود الاجتماعي ككل.