رحلة إلى ارض الأمجاد “آسا “ بجنوبنا الحبيب
سأحكي لكم قصة يوم ، نهاره خرج من رحم حر وقر ، ومساءه رحمة ونعيم وكرم حاتمي قل له نظير ، يوما ضللنا فيه بين واحات وكثبان الرمال ووديان بجنوبنا الحبيب ، نبحث عن أهل وأحباب رحل بالبيداء المقفرة ووسط خيام مسدولة مستوطنة ، لا فيها حياة الا ما أن حجب العمران وراء ذلك السراب .. صار من العجب العجاب القول أننا نتخبط بين الصفي الحامية والرمال الكاوية، نصارع تلك الكثبان الشاهقة التي هي أشبه بأمواج زمهرير بحر محيط مضطرب متلاطم الأمواج .. ومع توقع المخاطر في كل حالة شرود.. يلوح لنا الأفق حزينا مقفرا .. تتوالى بدنا الانفعالات سهوا بما لم يكن في وسعنا حتى أن تتصوره على وجه التقريب لولا أننا قد قاسيناه وكبدناه فعلا . إن في هذا المنظر المؤلم المتوحش المتجهم كالإخطبوط الرملي الاجرد … شيئا يقبض الصدر ويمزق القلب يعربد الأنوف.. لكن ثمة ما يجعل الشيء أكثر إمتاعا.. انه جمال الصحراء الآسر الفياض ، وهو يخطف البصر ولهة ، ويبعث شعورا منسما ومنعشا يفيض بهجة ويدغدغ الوجدان . ليترك في النفس أثر ممتعا ذو عذوبة من نوع متفرد لا يضاهيه إسهاب.
عند وصولنا تلك النخلات الشاهقات.. وعلى ضفاف ذاك الوادي ” اصوفيدن” بتيدالت ، تأملنا المكان مليا فاجزمنها بأن الحياة هنا لا شبيه لها ولا نظير .. لوحة طبيعية في صحن رمال الصحراء .. عناق مشدوه بين أعداء الأمس المرصع بملاحم الأبطال والصناديد ، انتهى إلى توافق أزلي بصم تاريخهم بكل تناغم اخاد .. أو شيء من هذا القبيل .. نرجع الى تلك الكثبان الرملية الشاهقة والتي تحتضن مساحة محدودة من الماء .. تساؤلات جمة تخالج الدهن الشارد .. ذهول ارقه رطل من العجب .. إن هذه البقة اليسيرة .. والحيز اليسير من الماء الراكض بين التلال لا يكفي لإرواء طرف عرق كثيب واحد من هذه الكثبان المحيطة به .. فما الذي جعلها واجبرها طبيعيا كي تكبح شهيتها الغريزية ونهمها للامتصاص .. أي مشهدا هذا أرى ؟ .. وأي عناق هذا أرى ؟ .. عناق الأحبة الافدان .. أم ميثاق الأضداد ؟؟.. ألا يمكن له أن يضاف إلى قائمة عجائب الكون التي لم تحصى بعد ؟؟أم أنها معجزة الطبيعة وسبحان مدبر الأحوال؟؟
وبعد مشي طويل ، بزغت لنا واحة من بعيد ،ظهرت باخضرارها المكسر بسراب دو أبعاد ثلاث ، نخيلها باسق في السماء ، وجذوعها كجلاميد صخر حطه السيل من عل ، حثته تعرية الزمان ، بينها حدائق غناء ، جنة مخضرة بها الجريد والرطم والريحان والشتل العجيب … شد انتباهي شيخ مسن هناك في زوايا البحيرة .. وحيدا واجما يهم ويكد بعمل ما .. اقتربت منه متسللا بين الجنان شيئا فشيئا بخطى هادئة .. وجهه من الوجوه الملاح التي يسر مرآها .. شاحب اللون العسلي ناتئ الوجنتين سريع وجرئ النظرة .. يعالج الماء بسقيه بالعتلة والربطة المصونة ،يلوك بين نواجذه مضغة من التبغ يضعها بين اللثة والشفة السفلى من فمه .. ما أن باغته وهلة بالتحية .. هم بالسلام بالحسانية القحة والترحيب بروح المضيف الطيب الكريم ، وهي شيمة أهل الصحراء أصحاب الأصل والمفصل .. ترك سلاله مرمية فوق الأرض ، بها شيء ما ، وجلسنا نتجا بد أطراف الحديث .. بدأ لي لهذه المعدات التقليدية انه يوظفها ليصطاد شيء ما .. سألته ؟ أجاب : نعم .. ليس بهذا الوادي من الكائنات الحية سوى هذا النوع النادر .. أشبه باليرقات الصغيرة يسمونها ( العلق ) .. لم استسغ شكلها ولونها ولا حتى رؤيتها لشكلها المشيم .. لكنه أردف يحدثني عن قصة هذا السر العجيب والكامن في صيدها المبهر .. إنها ابرز فصائل العقاقير والأدوية لدى أهل الصحراء .. لتعداد استخدامه بالصحراء .. وبالذات لأغراض علاج أمراض الكسور ، والدمادل والقروح الخبيثة .. وقد قل التداوي بها اليوم لكثرة العقاقير المستنسخة .. لكن البعض لا يزال يعتقد بنجا عتها .. وآخرون عادوا إليها بعد يأسهم من الطب الاكلينيكي الحديث .. هكذا فهمت من تعبيره …
واصلنا بعد ذلك طريقنا في اتجاه ” عوينة اسا” بعد ان دلنا عليها الشيخ الصياد.. قطعنا الدروب والوهاد والسهاب .. واضحت” تيدالت “وراءنا تتوارى .. وعلى يميننا وشمالنا مليا نلاحظ بين الفينة والاخرى وسط تلك السهوب والجبال الوعرة ، رعاة ابل وقطعان من الغنم يقتفون اثر المرعى في ما تبقى من الغطاء النباتي الذي انهكه اتساع رقعة التصحر والمناخ المتطرف.. كثرة الأعشاب الشوكية المتناثرة بريح صهيب الصحراء .. شجيرات الطلح وصمغ “العلك” يسيل زلالا من جذوعها انسيابا بديعا تحت رحمة سخونة حر الشمس الساطعة .. وما ان بلغنا واحة ” أسا” طاب لنا المقام وان نتحرى واقع ساكنة قبيلة” ايتوسى” التي سمعنا عنها الكثير، تاريخها العريق ، بسالة أولادها ، شهامة رجالها ، والكرم الحاتمي الذي هباهم الله به ، منها اكرام ضيافة الزوار واهل السبيل … وجدناهم اناس بسطاء لا تعصف برؤوسهم الأفكار المشينة، لاهم في اليسار ولا هم في اليمين ، ولا في الأجندات الجاهزة المستوردة التي نالت من رهط ليس بالقليل .. يتحدثون لغة الحسا نية بلهجتها القحة الأصيلة ،لا تملق فيها ولا تصنع، يتكافلون بتناغم مع طبع المكان وقسوة الحياة . يعرفون كيف يحلون مشكلة الحياة بقانونهم القبلي ” ايت الربعين”.. الابتسامة تعلي محياهم و ترتسم على شفاههم حتى ولو كانت أحلك الظروف والأوقات .. صبرهم الذي لا ينفذ وكسبوه من تجارب عاشوها بالرحيل والترحاب.. الهدوء والوداعة شيمتهم.. ونبل النفس صيرورتهم .. توقد فيهم الذكاء الفياض..تجد واحد منهم لين العريكة .. بشاشة المزاج والوجدان .. شهامة الخلق .. دماثة السلوك .. رباطة الجأش.. طيب المعشر واكرام الضيف وان خلا المكان من الميسورين .. سمات هباها الله لهم ، تأصلت لتعوض الساكنة للعيش في هذه الربوع الفيحاء ، تحدوهم يحاكون الآمال جمة بالمستقبل … رغم علامات النعمة والوقار تكسو الوجوه .. صامدون بوداعة حيث تركهم الأجداد والأسلاف وكأنها الأرض المباركة ، التي حباها الله بالسكينة وبتلك العين التي تنضح ماءا صافيا لتسقي الواحة الغراء … تمر عليهم الأيام والغبطة تعلو الوجوه في كل وقت وحين.. والتذمر الاصغم لا يعرف لقلوبهم سبيل .. الحاج” محمد مبارك التامك” الذي نحر الناقة وفصلها لحما قرعا ووزعها على الخيام .. الشيخ “يحضيه ولد عبدالله الملقب ناجيع ” صاحب الحكمة والمشورة .. الشيخ الحاج محمد ازيكو وهو الشاعر الذي صاغ القوافي ونثر الشعر وديانا ، وتغنت بها حناجر مدوية .. وغيرهم ممن تألفنا معهم وكأننا من اهل البلاد او لكأن المقام طاب لنا ومكثنا هنا بينهم لايام وايام وسنعود لهذا الكلام …
لقد احتفوا بنا كثيرا في ذلك .. وليلة عزومة الحاج ” علال ولد ابراهيم ولد فراجي” بسط على شرفنا احتفاء بقدومنا وانثروه عرسا اخاد .. على ضوء القمر الذي شف ثراه على رقيق السحاب .. ونخب ليالي الصحراء الدافئات .. البراح المتيم الرائع .. فالأحاديث والنداءات التي تتردد من حين لآخر على ألسنة الساكنين هناك تشي كلها بانتسابهم إلى الصحراء ، وهو الأمر الذي كان له الإسهام في طي المسافة نحو التيقن من أصول العناصر البشرية الفاعلة في هذا المجال العجيب. الأمر قد يستحق الاكتشاف ، فالواضح أن ثمة جديد يحدث أو سيحدث في تلك الأثناء ، فالزرابي المزركشة بألوان بديعة ، والوسائد الصغيرة الموضوعة بعناية وترتيب في الفضاء الذي تغطيه الزرابي، وأواني الشاي والموائد المتفرقة أضافت قيمة جديدة للتشويق الذي صار مغناطيسا يسري مفعوله على الزائر للمكان ، وشكلت في مجموعها أدوات تركيبية للوحة تعتبر غاية في الجمال تحت ضياء القمر وسكون الليل . بضع دقائق كانت كافية لكي تلفض كل الخيام ساكنيها، رجال يتملك الفرح والحبور قسمات وجوههم وهم في انتعاش في حللهم الصحراوية الأصلية ، ونساء عليهن أمارات البهجة والزينة الأخاذة . يبدو أن الجميع يستعد للاحتفال فما هي المناسبة ؟.لم يستغرق أمر الحصول على جواب وقتا طويلا ، فدعوة من أحد رجال الحفل للحضور بجانبهم كانت كافية لتبديد كل ما من شأنه أن يشكل غموضا حول مايجري . حين تدنو من الموقع المرسوم للحفل تعتقد بالفعل أنك على بعد أقدام معدودة من خشبة مسرح ضبطت فيها كل الشخوص مواقعها وهي في استعداد للأداء. همسة في أذن الرجل كانت هي الحل والجواب كان ترحيبيا بلكنة صحراوية واضحة تعرض الحضور لتتبع إحياء ليلة من ليالي السمر والإمتاع والمؤانسة في ثنايا الليل وشجونه . كان لابد من الاستجابة وعدم التردد من الموافقة ، فالأمر قد يتعلق بوليمة أو مأدبة عشاء مادام أن الموائد والأواني بمثابة مؤشرات الدلالة . استمتعنا برقصة الكدرة ، وبذلك النقار” البشير ولد رمضان ” بمغازله الذهبية ، وبخفة مروضها ودقه على صفوة القدر الذي يصدر لحنا متناغما يدب ويسري في هشيم الوجدان ، بمراقبة تلك الفتاة الراقصة والمرصعة بالحلي والحلل ، وبملحفتها المزركشة الالوان ، و”البوف” جاتما على ناصية راسها كتاج كسرى انو شروان ، ورائحة العطر “الخواض” عم المكان ، ومنبعه رأس تلك الفتاة المفتولة الأصداغ ، والملونة أسلافها بالاخراب والامجون والزمرد الأحمر دو اللمعان ، تلك الرقصة الأزلية التي اخدتني الى عالم قصص “شرتات” الاسطورة الصحراوي التائه في الصحراء ، وهو يبحث عن ابله وقد تاهت بين الفيافي القاحلات …انتبهني استعراضاتهم البهلوانية الشيقة والتمايل العجيب ، تماشيا مع الحركات الايحاحية والكلمات المبهمة التي تصدر من رئيس المجموعة “النكار ” … تتوقف الإيقاعات للحظات متقطعة لكي يرطن أحد المشاركين في الأمسية ” الحاج محمد ازيكو” بكلمات ذات دلالات عميقة تخرع من معين الديوان الشعري الحساني المفتوح ، يتناوب الجميع فيلقي كل واحد قصائد مما تجود به قريحته ، في سلاسة وتركيز على مخارج الحروف التي تغرس في نفوس السامعين متعة فريدة بتذوق المعاني والسفر بالنفس إلى أزمان متجذرة في أعماق التاريخ الصحراوي الذي حفرت سجلاته بمداد غير قابل للمحو. تلك سنتهم ، وعادتهم التي جبلوا عليها ، الأهم في كل ذلك أنهم لايعزمونون عن الاستمرار دعما لروابط الألفة التي تجمع بعضهم ببعض ، وتعضدها رحابة الجيران وأهل القبائل الاخرى، الذي نسجوا معهم علاقات مترابطة . حين يدنوا الفجر وتلوح نسائم الصباح في الأفق تكون الحفلة قد وضعت أوزارها ويضرب الجميع موعدا للقاء الأحبة القادم لتضع نقطة البداية أسفل عنوان سفر جديد نحو أحضان الصحراء الفيحاء .
الحسن البوعشراوي