التحولات الاجتماعية والثقافية في زمن الإبداع الرقمي: سؤال الأخلاق في عصر المنصات والمحتوى الفوري

شهد العالم خلال العقود الأخيرة تحولا بنيويا غير مسبوق في أشكال التعبير الثقافي والفني، بفعل الثورة الرقمية التي أعادت تشكيل منظومة الفعل الإبداعي ضمن سياقات اجتماعية وثقافية جديدة. فقد تراجع دور المنصات التقليدية في إنتاج وتداول المعنى (من قبيل المسرح، الصحافة، المعارض الفنية، القنوات التلفزيونية…) لصالح فضاءات رقمية تفاعلية باتت تشكل الحيز المهيمن على المشهد التعبيري المعاصر. وفي هذا السياق، لم يعد الإبداع الفني والثقافي حكرا على النخب أو المؤسسات، بل أضحى ممارسة يومية منتشرة بين فئات واسعة، تنتج بسرعة وتستهلك على نحو فوري، وهو ما أفرز أشكالا تعبيرية جديدة قائمة على التفاعل الآني والتداول السريع للرموز والصور والمعاني.
غير أن هذا التحول، وإن حمل إمكانات ديمقراطية لافتة، فقد أثار في الآن ذاته إشكالات جوهرية تتعلق بمضمون الفعل الإبداعي وموقعه الأخلاقي. فبفعل الخوارزميات التي تتحكم في أنماط الوصول والمشاهدة، وبحكم منطق “الترند” والسعي وراء التفاعل الجماهيري، باتت القيمة الجمالية والتربوية للمضامين الفنية والثقافية تستبدل تدريجيا بقدرتها على الإثارة والانتشار، ما يطرح بإلحاح سؤال الأخلاق: هل نحن إزاء تحرر فعلي للمبدع في العصر الرقمي؟ أم أننا أمام انزلاق خطير نحو تسليع المحتوى وتفريغه من أي عمق قيمي أو التزام نقدي؟
إن التحولات الاجتماعية والثقافية التي نعيشها اليوم، في ظل هيمنة المنصات الرقمية، تدفعنا إلى مساءلة العلاقة بين الإبداع والمعنى، وبين الحرية والمسؤولية، في أفق بلورة تصور جديد للأخلاقيات الرقمية التي تواكب التحول التكنولوجي، دون أن تتنازل عن البعد الجمالي والإنساني للممارسة الثقافية والفنية. لقد أشار نيل بوستمان، منذ عقود، إلى هذا الانزياح الخطر نحو “تسلية حتى الموت”، حين نبه إلى أن الأنظمة الإعلامية الحديثة قد تنتج خطابا عاما قائما على الإبهار لا على المعنى، وعلى التسلية لا على التنوير (بوستمان، 2006، ص 25).
الإبداع الرقمي بين الوفرة والانزياح القيمي
لقد أتاح التحول الرقمي انفجارا تعبيريا غير مسبوق، حيث أصبحت أدوات الإبداع متاحة للجميع، من الهاتف الذكي إلى تطبيقات التحرير والبث المباشر. وقد رافقت هذه الوفرة تنوعا ثريا في الأشكال الفنية، من التشكيل الرقمي إلى الرقص القصير، ومن الفيديوهات الساخرة إلى الأغاني المصورة ذات الإنتاج المنزلي. لكن هذا الانفجار لم يقابله بالضرورة ارتقاء في المعايير الجمالية أو القيمية؛ إذ باتت سرعة الوصول والتفاعل الجماهيري تفوق الاعتبارات الأخلاقية أو التربوية. وهكذا، أصبح المبدع الرقمي مطالبا بإثارة الانتباه أكثر من صياغة المعنى، وبمجاراة الخوارزميات أكثر من مساءلة القيم. كما نبه جان بودريار في تحليله لانهيار المعنى في عصر المحاكاة، فإن الصورة لم تعد تحيل إلى واقع أو قيمة، بل أصبحت تحاكي ذاتها، منتجة سلسلة من “التمثيلات الفارغة” (بودريار، 1993، ص 31).
سقوط الالتزام: من الفن المسؤول إلى الترفيه السريع
في لحظة كانت بعض التيارات الفنية تناضل من أجل استعادة الفن لدوره النقدي والاجتماعي، جاء الفضاء الرقمي ليعيد توجيه البوصلة نحو محتوى يجنح إلى الخفة والفرجة. لم تعد مسؤولية التعبير أو أثره على الوعي العام من شواغل المبدع الرقمي في كثير من الأحيان، بل غدا الهم الأول هو ضمان الانتشار والبقاء في الواجهة. وهكذا، تراجعت القضايا الكبرى أمام التفاهة الجذابة، وخفت صوت الفن الملتزم أمام ضجيج التحديات السطحية والمضامين المثيرة.
في هذا الإطار، لا يتعلق الأمر برفض الرقمي على أنها أداة، وإنما برفض انزلاقاته التي تقطع الصلة بين الإبداع والسؤال الأخلاقي. وكما عبر يورغن هابرماس، فإن تراجع “العقل التواصلي لصالح منطق الأداء التقني يهدّد المجال العمومي، ويضعف من قدرة الفعل الثقافي على إنتاج المعنى “(هابرماس، 1987، ص 78).
الخوارزمية المربية: هل تصنع المنصات ذوقا أخلاقيا؟
في المنصات الرقمية، لم يعد الإنسان هو من يختار ما يشاهده بقدر ما يتم توجيهه وفق نمط سلوكه السابق، عبر خوارزميات التعلم الآلي. وهذا ما يجعل الذوق الجمالي والأخلاقي نتاجا لبرمجيات معقدة تهدف إلى إبقائنا أطول وقت ممكن أمام الشاشة. فالمعايير الأخلاقية لا تملى على هذه الخوارزميات، بل هي تابعة لمنطق السوق، مما ينتج عنه تغذية مستمرة لأنماط من التعبير قد تفتقر إلى البعد القيمي أو التربوي.
تظهر هذه الوضعية هشاشة الذوق العام أمام التأثير الخفي للخوارزميات، التي تخلق وهم الحرية، بينما تعيد تشكيل الحاجات والرغبات والمعايير دون مساءلة. وهذا ما يحيل إلى ضرورة تطوير تربية نقدية رقمية تكون قادرة على تفكيك آليات التوجيه غير المرئي الذي تمارسه هذه الأنظمة، كما أشار ليف مانوفيتش في تحليله الثقافي للبنيات الرقمية ((Manovich, 2020.
الأخلاق بين الرقابة الذاتية والمساءلة الجماعية
أمام هذه التحولات، يطرح سؤال الرقابة بوصفها إشكالية مركزية: من يحدد حدود التعبير؟ ما الفرق بين الحرية والانفلات؟ وما الجهة المؤهلة لوضع معايير القبول أو الرفض؟ في غياب مواثيق أخلاقية متوافق عليها رقميا، يظل الفعل الإبداعي عرضة لمزاج الجمهور من جهة، ولرقابة المنصة من جهة أخرى. وهنا تظهر الحاجة إلى مأسسة الحوار حول الأخلاق الرقمية، ليس بوصفه سلطة قمع، بل باعتباره التزاما جماعيا نحو احترام الآخر والحد من العنف الرّمزي والتعبيري.
إن التربية الجمالية مطالبة اليوم بالانفتاح على المجال الرقمي، لا فقط من حيث الاستخدام، بل من حيث ترسيخ قيم التعبير المسؤول، والمشاركة الواعية، والوعي بالأثر الرمزي للفن، في المدرسة، وفي المحتوى الإعلامي، وفي الفضاءات العمومية.
نحو أخلاقيات رقمية للفعل الثقافي
إن تجاوز هذا الانزياح القيمي لا يكون من خلال المنع، بل من خلال التربية، والنقد، والحوار. المطلوب اليوم هو بلورة ميثاق أخلاقي ثقافي جديد، يواكب التحولات الرقمية دون أن يتخلى عن المبادئ التي أسست للفعل الثقافي بوصفه ممارسة إنسانية نقدية. وهذا الميثاق لا ينبغي أن يكون مؤسساتيا فحسب، بل كذلك مجتمعيا، يدمج الفنان، والمربي، والجمهور، والمؤسسة.
وبهذا المعنى، تمثل التربية الجمالية اليوم رهانا تربويا وثقافيا ملحا، يمكن الأجيال الجديدة من تملك أدوات القراءة النقدية، والتمييز بين الإبداع والتسليع، وبين الجاذبية والمعنى، وبين الحق في التعبير والواجب الأخلاقي تجاه الآخر، في عالم تعيد فيه التكنولوجيا رسم حدود الإدراك والمعنى يوما بعد آخر.
المراجع:
بوستمان، نيل. (2006). تسلية حتى الموت: الخطاب العام في عصر الإعلام. ترجمة: محمد السعيد شريفي. الجزائر: منشورات الاختلاف.
بودريار، جان. (1993). شفافية الشر: مقالات عن الظواهر القصوى. بيروت: دار الطليعة.
هابرماس، يورغن. (1987). نظرية الفعل التواصلي. بيروت: دار الجمل
حسناء لحكيم
طالبة باحثة