أراء وحوارات

من الشاي إلى الأتاي.. العادة والتاريخ

امجد ناصر

ذكّرني كتاب “من الشاي إلى الأتاي: العادة والتاريخ” للباحثيْن المغربييْن عبد الأحد السبتي وعبد الرحمن الخصاصي، الصادر عن كلية الآداب والعلوم الإنسانية في الرباط، بشايٍ وزمنٍ آخريْن: بالشاي الذي كانت تنطلق مع رائحته الأولى وتدور حوله حياتنا اليومية، وبزمن الطفولة الأردني الذي كان مسكوناً بالشاي حتى الثمالة، والذي لا يزال كذلك لملايين الأردنيين.

النهار كلّه للشاي. يبدأ مع الشاي وينتهي به. فلا إفطار ولا غداء ولا عشاء يتم دون أن يكون مصحوبا بالشاي. والأكل لا يزدرد ولا ينزل إلى الحلقوم، ولا يستقر في المعدة من غير تلك الرشفات المتسارعة الملهوجة من هذا المشروب الساخن الحلو، إلى حدِّ أن شفتيْ الواحد منا كانتا تلتصقان ببعض! الشاي هو أول راية يرفعها النهار على بيوت الفقراء، وآخر راية يطويها بعد أن كان -في مستهل عهده عندنا- مشروب الصفوة الاجتماعية.

***

ليس الشاي في المشرق مثل “الأتاي” في المغرب (بلدان المغرب العربي عموماً). أيُّ زائر للبلاد المغاربية يعرف الفرق. فلا لونه ولا طعمه ولا طريقة تحضيره ولا طقسية تلقِّيه تشبه شاينا المشرقي ومراسيمه.

ولأن الشاي مرتبط عندنا بالسكّر فإن انقطاع السكّر أو تقنينه يمكن أن يؤديا إلى اضطرابات شعبية أو حالات اكتئاب عامة، مثل تلك التي حدثت في مطالع الستينيات بسبب أزمة الصواريخ السوفياتية في كوبا وانقطاع امدادات السكّر إلى مناطق واسعة من العالم ومنها الأردن

الشاي في المغرب هو “المشروب الوطني”، بينما “مشروبنا الوطني” في بلاد الشام والخليج هو “القهوة العربية” أو البدوية، رغم كثرة استهلاكنا للشاي. والأمر لا يتعلق بكثرة استهلاك المشروب في الحياة اليومية، بل في تمثيله لخصائص الأهلين وشخصيتهم ومن ثم الطقوس الخاصة به.

ليست لدينا طقوس خاصة لتناول الشاي، ولا ينطوي تقديمه وشربه على لغة إشارية كما هو الحال مع القهوة العربية. فهناك مراسيم وتراتبية في صبّ القهوة وتناولها، كما أن هناك مقامات وأحوالاً لشربها. فهي إما أن تقدّم أولا للأكبر سنا، أو مقاما، أو تدور الفناجين على الحاضرين من اليمين إلى اليسار بصرف النظر عن السنّ والمقام.

لا ترافق صبّ القهوة لغة منطوقة وإنما لغة إشارية، مثل هزّ الفنجان بعد شرب هذا السائل الأسود العابق برائحة الهال، للدلالة على الاكتفاء. فوفقا لهذه اللغة الإشارية يواصل المضيف سكب القهوة أو يتوقف. لكنّ فنجان القهوة لا يهزّ في حالة تقديم واجب التعزية.

طبعا هناك فنجان “الجاهة” (الوفد العشائري لعقد صلحٍ أو لخطبة بنت)، الذي يظل على الطاولة ولا يُشرب من قبل أفراد “الجاهة” إلا بعد استجابة المضيفين لمطلب “الوفد”.

لكنّ الفوارق بين الشاي المشرقي والشاي المغربي (المغاربي) لا تتوقف عند لون المشروب، بل تطال مصدره وطريقة تحضيره كذلك، فالشاي المغربي (الأخضر) هو غالبا صيني، بينما شاينا المشرقي سيلاني أو هندي، ورغم أن أصل الشاي كله صيني واسمه مأخوذ من الكلمة الصينية “شا”، إلا أن طريقة حصاده وتجفيفه وتصنيعه جعلت الفوارق بين “الشاي الصيني” و”الهندي” أو “السيلاني” تبدو وكأننا نتحدث عن شايْن مختلفيْن جذريا.

فالأول يصبح بعد الغلي وإضافة النعناع إليه أصفر اللون، فيما الثاني يتحول إلى اللون “الأحمر” الداكن..، وعند فئة من المصريين (لعلهم الصعايدة) يكون مائلاً للسواد حتى إنهم يسمونه “حبراً”!

ليس ضروريا أن يكون مصدر الشاي المغربي الصين مباشرة، فهو قد لا يكون قادما تجاريا من الصين، بل يمكن أن تكون لندن هي المصدر، باعتبار أن الإمبراطورية البريطانية بسطت سيطرتها على الهند وأجزاء واسعة من محيطها المشهور بزراعة الشاي، واحتكرت بالتالي تجارته. فها هو شاعر موريتاني يدعى محمد بابه بن مبارك الديماني يشير إلى مصدر أفضل أنواع الشاي -في رأيه- قائلاً:

شراب أتاي الوندريز منعنعا

من أشهى شهيات اللذائذ أجمعا

ولكننا نشكو إلى الله شربه

بشرب على غير المعالي تجمعا

و”لوندريز” تصريف -كما هو واضح- لاسم لندن بالفرنسية: لندره!

***

الفوارق بين الشاي المشرقي والشاي المغربي (المغاربي) لا تتوقف عند لون المشروب، بل تطال مصدره وطريقة تحضيره

في المغرب العربي يشرب “الأتاي” -حسب ملاحظتي الشخصية- بعد الأكل وليس معه. وهذا أيضا ما ينصح به الشاعر سليمان الحوات الشفشاوني ويحدد وقت بعد العشاء لتناوله:

ووقته وقت سرور وانبساط

وحيثما دعا لشربه النشاط

وقت الصباح عندهم مستحسن

لكنه بعد العشاء أحسن!

ويؤتى بـ”الأتاي” في آنية خاصة: الصينية والإبريق الفضيّيْن (عند الميسورين على الأقل) والكاسات الملوَّنة، ويسكب (حسب أصوله) في الكاسة من مسافة معينة، بحيث تتكوَّن رغوة تشكل تقريبا ربع الكأس.

بينما “عدة الشاي” عند الطبقات العريضة من المشارقة لا تتعدى الأباريق القيشانية، كحلية اللون والكاسات الصغيرة المحجَّرة (ضد الكسر) الفرنسية الصنع، وليست له طقوس خاصة للسكب أو الشرب. المهم أن يكون ساخنا وحلواً.. حلواً إلى درجة “التدبيق”. أتحدَّث هنا عن “شاي الأكل” الذي يكون أول شيء يوضع على النار صباحا، ويزحف إليه الأطفال أنصاف نيام، ولا يتبينون مواضع أيديهم إلا بعد الكاسة الثانية أو الثالثة!

وأتذكر أن أحد إخوتي كان يرتجف وهو يرتشف كاسة الشاي، ولا تهدأ يداه وشفتاه إلا بعد أن “تبتل عروقه” بهذا الإكسير الذي لم نكن نعرف يومها شيئا عن قدرته على خلق إدمان عند شاربه، ولا عن علاقته طبعا بفلسفة “الزن” البوذية!

هذا هو الشاي بصورته الغالبة الذي أسميه “شاي الضرورة” لا “شاي المزاج”، فالأخير هو “للكيِّيفة” الذين يلبون نداء “رؤوسهم” لا معدهم، وليس “الكيف” هنا مشابها “للكيف” المغربي أو حتى المصري. إن الأمر يتعلق فقط بدرجة مختلفة من تخمير الشاي ووقت مناسب لتناوله..، والسوريون والعراقيون يعرفون ذلك أكثر من الأردنيين الذين أعتبرهم من جماعة “شاي الضرورة”، شاي المعدة لا شاي الدماغ!

وإذا كان المغاربة لا يضيفون إلى “الأتاي” سوى النعناع -الذي تستطيع أن تحدّد بسبب رائحته النفاذة موقع “السويقة” (سوق الخضر) وأنت مغمض العينين- فإننا في بلاد الشام -وليس كلّ المشرق- نتفنّن في إضافة أصناف عديدة من الأعشاب والمطيبات والمكسرات إلى الشاي، خصوصا في المقاهي، فهناك الشاي العادي، والشاي بالنعناع، والشاي بالحليب، والشاي بحبّ الهال، والشاي بالقرفة (يقدم خصوصا للمرأة النفساء)، والشاي بالميرمية. أما القينر (أو الأينر) فهو شاي بالقرفة يضاف إليه جوز الهند والجوز المفروم، وهو الأغلى ثمنا في المقاهي الشعبية الأردنية، ويعتبر مشروبا شتويا نظرا لما توفر مواده للجسم من طاقة.

هناك ذكر دائم للشاي في روايات وقصص وقصائد المصريين، خصوصا الذين يتحدّرون من الأرياف، ولكني لا أعرف أعمالاً إبداعية قائمة بذاتها تتعلق بالشاي وطقوس شربه، كما هو الحال في التراث الأدبي المغربي

ولأن الشاي مرتبط عندنا بالسكّر (على عكس ما عليه عادات شربه في بلديْه الأصلييْن: الصين واليابان) فإن انقطاع السكّر أو تقنينه يمكن أن يؤديا إلى اضطرابات شعبية أو حالات اكتئاب عامة، مثل تلك التي حدثت في مطالع الستينيات بسبب أزمة الصواريخ السوفياتية في كوبا وانقطاع إمدادات السكّر إلى مناطق واسعة من العالم ومنها الأردن.

ففي تلك الأيام “المرَّة” (الشاي هو -بصورة أو أخرى- حلوى الفقراء ومصدر الطاقة الأساسي لهم) لجأ الأهلون إلى التمر لتعويض غياب الشاي عن المائدة. كانت الحيلة ساذجة ولم تتمكن من تعويض الشاي فزادت اللقمة الناشفة نشافاً آخر.

***

للشاي حضور كبير في الإبداع المغربي التقليدي، خصوصا في الشعر الغنائي، وقد نظمت قصائد وأراجيز عديدة في الشاي ومراسيمه، كما أنه ذو حضور في الإبداع المغربي الحديث. ورغم أن المصريين من محبي الشاي وشاربيه بإفراط، فإنه لم يحظ عندهم -حسب علمي- بمدونة إبداعية لافتة.

هناك ذكر دائم للشاي في روايات وقصص وقصائد المصريين، خصوصا الذين يتحدّرون من الأرياف، ولكني لا أعرف أعمالاً إبداعية قائمة بذاتها تتعلق بالشاي وطقوس شربه، كما هو الحال في التراث الأدبي المغربي. وقديما علقت في ذهني قصيدة لعبد الرحمن الأبنودي يتحدّث فيها عن رجل يجلس وحيداً في مقهى يقول فيها:

“على كرسي ف قهوة ف شارع

شبرا قعدت.

وجابلي كباية الشاي الجرسون.

كباية شاي القهوة غير كباية

شاي البيت خالص.

بصيت له كتير

مش عارف ليه

من مدة طويلة ما شفتش حي.

كان الشارع نابض فيه الدم المطفي وحي

مر عليا الراجل الاصلع خالص

والبنت اللي ف ايدها طبق الفول الناقص خالص

والست اللابسة التوب اللسود خالص

مرت عربية جديدة وفيها ناس

وشها ساكت خالص خالص”.

اذهبوا إلى أقرب مقهى لتقفوا على حقيقة ما قاله عبد الرحمن الأبنودي: فكباية “شاي القهوة” غير كباية شاي البيت.. خالص خالص

مقالات ذات صلة

‫2 تعليقات

  1. Celebrations are focused on food and everything sweet that the
    hands can reach. Protein Intake: Protein is the most important factor which helps in increasing the processing of fat reduction.
    The science behind the diet is described as “sketchy” at best,
    which is probably why the Food and Drug Administration has banned it in the homoeopathic form.

  2. Have you wondered I would like to sell my car for free?

    There are loads of possibilities if you know how.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
%d مدونون معجبون بهذه: