التنمية المستدامة رؤية وواقع ورهانات
رفع المغرب تحديات كبرى من شأنها أن تجعله ورشا للتنمية والتطوير الدائم من اجل الإصلاح ومواكبة الركب العالمي ومنافساته خاصة انه بلد لا يفتقد للموارد الطبيعية والمؤهلات البشرية والثقافية والفكرية .
و في إطار رصدنا لأهم المحطات المؤسسة لهذا المفهوم الشمولي سنتناول مفهوم التنمية والاستدامة وبعد ذلك سنقوم بتسليط الضوء على النموذج المغربي .
كانت التنمية ولأواخر الثمانينيات من القرن الماضي تفيد ما يتحصل عليه الفرد من سلع وخدمات مادية كمؤشرات عن الرفاهية،لكن مع تطور تجربة الدول الأسيوية وما يصطلح عليه بالنمور الأسيوية وخاصة نموذج دولة اليابان التي استطاعت تحقيق ثورة مهمة على مستوى جميع الميادين؛ الصناعية ،التكنولوجية ، الفكرية، والثقافية . كشفت عن كون الإنسان هو صانع التنمية وانه هو الثروة الحقيقية للبلاد . فاليابان بالرغم من كونها فقيرة من حيث الموارد الطبيعية إلا أنها حققت معدلات اقتصادية مرتفعة جعلت العالم يقف من اجل إعادة النظر وتقييم هذه التجربة الاستثنائية وهذا ما حدا بالأمم المتحدة الى تبني هذا المفهوم ،وذلك سنة 1990 في برنامج الأمم المتحدة للإنماء ودعت العالم كله إلى إعادة التفكير في تحسين النمط الاجتماعي لأنه ينعكس إيجابا على باقي المجالات من خلال تكريس مفهوم التنمية البشرية كرمز لتوفير فرصة للإبداع وتطوير المعرفة والمهارات وكذا الابتكار مع احترام الذات وضمان الحقوق والتمتع بأوقات الفراغ .وهذا مخالف لما كان منتشرا في الفكر العالمي بحث أصبح مفهوم الحرمان لا يعني الفقر المادي بل حرمان الإنسان من الحياة الكريمة التي يمكن أن يعيشها كالتمتع بالصحة ،الحرية ،الكرامة ،المساواة ، القدرة على الإبداع وتحسين المستوى المعيشي.
وباعتبار المورد البشري هو أغلى ثروة للبلاد فان الشباب أغلى فترة وأغلى قيمة ،لهم مكانة في حياة الأمة وهذا لا يتحقق إلا بإشراكهم في التخطيط والمشاركة الفعلية في الحياة الاجتماعية والإسهام فيها بالخدمات وترسيخ الحضارة والتراث الوطني.
أما بخصوص الاستدامة فقد استخدمت كمصطلح إلى جانب التنمية في قمة الأرض بالبرازيل ولأول مرة بمعنى تلبية احتياجات الجيل الحالي دون إهدار حقوق الأجيال القادمة في عيش حياة لا تقل عن المستوى الحالي الذي نعيش فيه ، وقد حدد المجتمع الدولي مكونات التنمية المستدامة في النمو الاقتصادي ، التنمية الاجتماعية ، حماية البيئة ومصادر الثروة الطبيعية وهذا يعني أن تكون نظرة شاملة عند إعداد استراتيجيات التنموية تراعي بدقة الأبعاد الثلاثة :
البعد الاجتماعي : المتمثل في خفض مؤشر البطالة ،تعزيز التنمية المحلية والإقليمية بتوفير الرعاية الصحية ,توزيع الخدمات مع تعزيز الترابط الاجتماعي والتقسيم العادل للثروات
البعد الاقتصادي : ويجلى في خلق مناخ للاستثمار وتشجيع المنافسة مع خلق روح الإبداع والابتكار الصناعي وتأهيل اليد العاملة والكفاءات البشرية و دعم المشاريع الصغرى والمتوسطة
البعد البيئي : يتوجب على البلدان أن تسعى للحفاظ على الجمال الطبيعي والتنوع البيولوجي ونوعية المياه والهواء والتربة لضمان مستقبل الأجيال القادمة
ومن العناصر الإجرائية للاستدامة التي تستدعيها إدراجها أثناء عملية اتخاذ القرار هو تحليل الأبعاد الثلاثة مع ضمان التوازن وكذا تحفيز المشاركة الشعبية والتشاور كما يتوجب وضع آليات لتقييم الأثر ولتحقيق أهداف التنمية المستدامة.
لأنها في حد ذاتها نظام متماسك يضم السياسات التكنولوجية ،الاقتصادية والاجتماعية في خطة شاملة للتنمية تضمن توظيف الموارد الطبيعية والرأس المال البشري بطرق اقتصادية لتحقيق النمو والحياة الكريمة للمواطن مع الحفاظ على نوعية البيئة ومصادرها الطبيعية للأجيال الحالية والقادمة .
ومن خلال دراستنا للنموذج المغربي فإن مفهوم المبادرة الوطنية للتنمية البشرية اعتمدت على برامج أساسية :
ـ محاربة الفقر
ـ محاربة الإقصاء الاجتماعي
ـ البرنامج الأفقي لمحاربة الهشاشة
انطلق هذا الورش الكبير بتوجيهات القيادة الرشيدة للملك محمد السادس بتاريخ 16 ماي 2005 وذلك للحد من الفقر والهشاشة والتهميش وخلق دينامكية اجتماعية دائمة وتنمية مندمجة لتشكيل الدعامة الأساسية لتقوية الدولة العصرية دولة الحق والقانون
بحيث أن المبادرة الوطنية للتنمية البشرية جاءت متعددة الأبعاد ومبنية على أساس الحكامة الجيدة وعصرنة الاقتصاد واعتماد مقاربة سوسيواقتصادية التي تهدف بالأساس إلى استثمار الرأسمال البشري، بتسهيل الولوج إلى الخدمات الاجتماعية كالماء الصالح للشرب والكهرباء وفك العزلة عن المناطق النائية والقضاء على الفقر والأمية وكذا إدماج الشباب مع دعم الأواصر الاجتماعية وتشجيع التضامن بخلق أنشطة مدرة للدخل بقصد تحسين المستوى المعيشي للأسر الفقيرة وتلك التي تعاني من الهشاشة دون إغفال الحفاظ على البيئة والثروات الطبيعة للبلاد .
الفاعلون في المبادرة الوطنية للتنمية البشرية :
على المستوى المركزي: نجد جهاز الحكامة إلى جانب اللجنة الإستراتيجية للتنمية البشرية المشتركة بين الوزارات ؛ وهي مكونة من أعضاء الحكومة وتنعقد برئاسة الوزير الأول إلى جانب الهيئات والمؤسسات العمومية ويسهرون على رصد الموارد التي تتناسب مع التجمع الإقليمي للمبادرات المحلية للتنمية البشرية كما تقوم بوضع الإطار المالي وتحديد الفاعلين الأساسيين للتواصل المؤسساتي وإنعاش التعاون الدولي والتتبع العام للمبادرة الوطنية للتنمية البشرية ودراسة المؤشرات وتقييمها .
على المستوى الجهوي: تتكون اللجنة من السيد والي الجهة وتضم العمال أيضا من مختلف الأقليم والعمالات المكونة للجهة ورئيس المجلس الجهوي ورؤساء مجالس الأقاليم و العمالات بمعية المؤسسات العمومية المعنية وممثلي النسيج الجمعوي الجهوي وقطاع القروض الصغرى بغرض خلق تناسق شامل بين المبادرات الإقليمية للتنمية البشرية .
على المستوى الإقليمي : يترأس اللجنة الإقليمية للتنمية البشرية العامل بالإضافة إلى المنتخبين وممثلو الجماعات المحلية والمصالح اللاممركزة المعنية وكل ما يتعلق بالمجتمع المدني والقطاع الخاص قصد المصادقة على المبادرات الوطنية للتنمية البشرية بتنسيق مع مختلف الشركاء المحليين المنخرطين في العملية وفتح الإعتمادات المرصودة لذلك والمصادقة عليها حسب التقدم في المشاريع والإشراف على تنفيذ البرامج والتتبع والمراقبة
على المستوى المحلي : نجد اللجنة المحلية للتنمية البشرية وتتكون من ممثلي ومنتخبي الجماعات المحلية او المقاطعات الحضرية بالإضافة الى رئيس اللجنة المكلفة بالتنمية الإقتصادية والنسيج الجمعوي والمصالح التقنية اللاممركزة ويكون من اختصاصاتهم الاجتماعية والثقافية والإقتصادية وضع المخطط ومراجعته والاطلاع على المشاريع المحلية للتنمية البشرية والتقوية منها وزيادة دعمها والتنسيق بينها وتحقيق الشراكة لتحقيق الانسجام بين البرامج القطاعية .
وفقا للمعايير الدولية وخاصة إذا درسنا وضع المغرب مقارنة مع الدول المتقدمة في مجال التنمية البشرية تعد معدلات النمو أقل من المتوسط ،بناءا على التقارير الدولية وبغض النظر عن قصور المعيار التي قيمت بها منظمة الأمم المتحدة مفهوم التنمية (أمد الحياة ـ مستوى الفقر ـ مستوى الدخل الفردي ) واعتماد البنك لمقاربة اقتصادية محضة . إلا أن المغرب يبقى متطور في صياغة مفهوم التنمية البشرية ووضع الآليات الكفيلة لمقاربة شمولية وفي كافة الميادين والقطاعات ومن ابرز الخطوات التي قام بها المغرب لتقليص معدلات الفقر والهشاشة والأمية والبطالة :
ـ تعزيز التضامن والاقتصاد التضامني الاجتماعي بتشجيع المشاريع الصغيرة والمتوسطة من اجل تحسين الدخل الفردي .
ـ دعم المقاولات الصغرى والمتوسطة بمنح التسهيلات والقروض والمناخ الملائم للاستثمار والمنافسة .
ـ تقليص معدل البطالة عن طريق وضع شعب متخصصة تتناسب مع متطلبات سوق الشغل لتأهيل الشباب ودعم قدرتهم على الإبتكار والإبداع.
ـ تعميم التغطية الصحية ( نظام الرمد) لتسهيل ولوج المرافق الصحية والاستفادة من خدماتها وخاصة من قبل الفئات الفقيرة والهشة .
ـ تشجيع التعليم بإنشاء دور الطالب والطالبة القضاء على الهدر المدرسي ببرنامج تيسير لدعم أبناء الأسر الفقيرة لمتابعة الدراسة .
ـ الاعتناء بالشباب ودعم قدراتهم بإنشاء المركبات الثقافة والرياضية .
ـ انطلاق مشاريع ضخمة كميناء طنجة الدولي ومد المغرب بشبكة الطرق السيارة واحتواءه على اكبر محطة للطاقة الشمسية والتقدم الصناعي الملحوظ وخاصة صناعات الطيران .
ـ فك العزلة بالوسط القروي بمده بالبنية التحتية الضرورية من طرق وماء صالح للشرب وكهرباء ومراكز صحية ووحدات صحية متنقلة’
ومع كل هذه الإنجازات العظيمة التي حققها المغرب إلا أن الخطاب الأخير لصاحب الجلالة في ذكرى عيد العرش المجيد . دعا فيه المؤسسات والفاعلين الاجتماعيين والشركاء إلى وقفة حقيقة ودراسة وطنية لتقييم أثر هذه الإنجازات ومعرفة الثغرات والتعثرات التي حالت دون انعكاس الإصلاح على كافة مكونات المجتمع المغربي وعدم تحقيق الأهداف المنشودة ،مع إيجاد الحلول الملموسة لتحسين الوضع الاجتماعي و إزالة العراقيل التي تحول دون تطوير الرأسمال البشري ، ونحن كي لا نبخس هذه الإنجازات حقها يجب علينا لزما نشر الوعي بضرورة العمل الجاد والجماعي وان نواصل سيرنا قدما كي لا نسقط في حلقة إعادة إنتاج نفس الأخطاء.