“اختفى الإحسان من أسطل القمامة “

عبد العالي أشرنان
هذه أول مرة أشعر فيها بقيمة الحياة ‼ نعم لن تعرف قيمة الشيء إلا حين تفقده .ففي ذاك المساء حصلت معي حادثة أعادت صوابي إليّ وجعلتني أفكر في الكثير من الأشياء من حولي .جلست وحيدا في حديقة شبه مهجورة إلا من حارس السيارات الذي انزوي في ركن على كرسيه البلاستيكي وقربه عصاه الغليظة وكلبه الهزيل .
لم تكن لي رغبة في الحديث إلى أحد .الوحدة والعزلة قسوة ما بعدها قسوة لكنها أرحم من شرور الآخرين .تكومت على نفسي فلأول مرة أجلس متفكرا متأملا لأطرح على نفسي أسئلة قد تبدو للكثيرين محض فلسفة أو إتعاب للذات الحزينة وفقاعات أفكار ستختفي مع مرور الوقت لكني كنت مصرا على ذلك .متى نعرف الله ؟ .هل كان القدر رحيما بي حين أوجدني في هذا الزمان أو العكس ؟ .
كنت أخفض رأسي إلى الأسفل وكأني أحاول أن أستفرغ من شيء هدني وأثقل كاهلي لا أدري لما وقتها شعرت برغبة ملحة في البكاء لكني لم أستطع ليس لأني مصنوع من حديد بل لأن الدمع قد يجلب لي زائرا فضوليا ما ‼ لن يسألوك شيئا بدافع الحب بل بدافع الفضول لا غير ‼ فقد اختفى الحب منذ امد طويل .لا يوجد حب في الأدغال والبراري ‼.
هناك فقط غريزة السيطرة والافتراس التي نمت في دواخلنا وحولتنا لوحوش ضارية ‼.
تمر أمامي الكثير من الأحداث المخزنة في ذاكرتي بعضها مرت عليه سنين والبعض الأخر لا زال طريا وأحداث أخرى أنية تقطع تفكيري لبرهة وتعود لتقذفني في دوامة الحزن والضياع .يسألونني عن الضياع أعني ضياع الذات لا غير ‼.
آه هذه اللغة التي أعبر بها لغة قاصرة عاجزة عن إخراج كل ما يعتمره قلبي من حزن دفين هل أكون محقا إن قلت أن لغات العالم بأسره لن تكفيني ولا حتى تلك اللغات المنقرضة والغابرة ؟.
مرت أمامي فتاة متبرجة تتبختر في مشيتها وكان لباسها فاتنا لدرجة الشهوة .اعتبرتها حمقاء فهل يمكن إغواء الفراغ ‼ لكني لست قديسا أو ملاكا فقد قيل إن الباغية يمكنها الصلاة أيضا ‼.
هذا العالم محير لدرجة الجنون لكنه ليس أكثر حيرة مني فالعالم ما هو إلا نتاج أفعالنا وتصرفاتنا ‼.
برد الشتاء أجبرني على النهوض فقد كان أقوى من أن يساعدني على مزيد من التفكير والتفكر .لا بد أني سأصادف مشهدا مقززا ما .تلك حاستي التي لا تخطأ إلا ناذرا .
توقفت قليلا كان يقلب القمامة بأظافره وينبشها بحثا عن طعام .تقززت من مجرد التفكير في أكلها فما بالك إدخالها لمعدتي لكنه الجوع الذي فتك به .تخيلت تلك الفتاة لا شك أنها هي الأخرى جائعة تبحث عن طعام ‼ وجد قنينة ماء غازية فيها بعض الماء .أفرغه في جوفه ثم رمى القنينة أرضا واستمر في النبش كمن ينبش جثة متقيحة .في النهاية لم يجد شيئا قلت بسخرية “اختفى الإحسان من أسطل القمامة “.
انصرف الرجل أو ما تبقى من رجل هدّه الجوع والفقر بعدها بدقائق جاء رجل أخر .ألقى بضع نظرات طاف حول القمامة المكدسة كمن يؤدي شعيرة ما ثم توقف وقال بغضب وقد دلف برأسه إلى أسفل “الأزمة تضرب بأطنابها أسطل القمامة ” .
احترت وأنا أرمقه من بعيد كمن يحدث شخصا ما انتبه لي لكنه استمر في الكلام وقال ” اللعنة، يحسدونك حتى على كيس القمامة ‼” ثم غادرا سريعا.
للتواصل