أراء وحواراتأعمدة

رمي مو فالحبس..

أقترح على الحكومة المقبلة أن تغير اسم وزارة العدل والحريات، وأن تصبح وزارة الاعتقال الاحتياطي، أما العدل فهو الغائب الأكبر في جل الأحكام القضائية، ولهذا لا داعي إلى الرفع من انتظارات المواطنين، وأما الحريات فإنها مشكلة كبيرة في بلاد لا تحترم فيها وزارة العدل قرينة البراءة، وتصدر بلاغا مع وزارة الداخلية يدين المتابعين في الجرائم الانتخابية الأخيرة قبل أن يصلوا إلى مكتب قاضي التحقيق. وزارة تتفرج على 35 ألف مواطن مسجونين دون حكم تحت عنوان مضلل اسمه الاعتقال الاحتياطي، لا تستحق كلمة حريات منقوشة على بابها.

في المغرب اليوم هناك 76 ألف سجين، في حين أن عدد السكان فيه لا يزيد على 34 مليون نسمة، حسب آخر إحصاء أنجزته الدولة، أما في مصر، التي يبلغ عدد سكانها 90 مليون نسمة، فلا يوجد فيها سوى 62 ألف سجين! وفي الجزائر، التي يعادل سكانها سكان المغرب، ليس فيها سوى 60 ألف سجين، هذا دون مقارنة المغرب بدول أوروبية متقدمة لا تتوفر على نصف سجناء المغرب… هذه الأرقام كشفها تقرير حديث لمعهد السياسات الجنائية والأبحاث في لندن، والذي صنف المغرب الأول من حيث عدد السجناء في العالم العربي والـ18 عالميا، ما يعني أن السياسة الجنائية في المغرب، والقانون الجنائي، وأحكام القضاة، وقرارات النيابة العامة متابعة المتهمين في حالة اعتقال، كلها مسؤولة عن ارتفاع عدد السجناء بالمغرب، حيث تصل نسبة المعتقلين الاحتياطيين إلى أكثر من 42٪‏ من مجموع عدد المسجونين، والأدهى من هذا أن 77 بناية سجنية، التي تضم بين أسوارها 76 ألف سجين مغربي، لا تتسع في الحقيقة سوى لـ40 ألف سجين، بمعنى أن السجون المغربية تعرف اكتظاظا كبيرا، وفائضا في المسجونين يصل إلى 32 ألف سجين… هذا معناه أن الدولة تسجن الناس قبل صدور الأحكام، وفوق هذا تعذبهم بحشرهم في سجون لا تتسع لشعب المسجونين هذا.

هذا الرقم مضلل جدا لأن هناك سجونا تعرف اكتظاظا بنسبة 300٪،‏ كما صرح بذلك المعتقل السابق، المندوب السامي للسجون حاليا، محمد صالح التامك.. والأكثر مدعاة للحزن أن هذه المندوبية العتيدة التي تكدس البشر في علب سردين، وتمتهن كرامتهم.. هذه المندوبية تابعة للسيد رئيس الحكومة الذي يقضي ثلاثة أرباع وقته في محاربة العفاريت والتماسيح وأجهزة التحكم، ولو صرف 10 دقائق من وقته في أسبوع واحد لحل مشكل الاكتظاظ في السجون برسالة واحدة من وزير العدل إلى النيابة العامة، يأمرها فيها بالتقيد بالسياسة الجنائية للحكومة، والتي تقضي بمتابعة المتهمين في حالة سراح، كما تفعل جل دول العالم، باستثناء من يخشى ارتكابهم جرائم خطيرة كالقتل أو الاغتصاب، أما الباقي فلا حاجة إلى اعتقالهم.. يكفي، في أسوأ الحالات، منعهم من السفر، وإغلاق الحدود في وجههم وانتظار حكم القضاء.

يكفي رئيس الحكومة أن يجتمع مع وزيره في العدل، ويقول له إن البشرية الحديثة اخترعت شيئا اسمه العقوبات البديلة غير القوانين الحالية، التي لا تتكلم سوى لغة السجن.. هناك عقوبات مالية وسلوكية ومدنية غير السجن إن لم يكن لاعتبارات إنسانية وحقوقية، فعلى الأقل لاعتبارات لوجستية تتعلق بسعة استيعاب السجون لعدد معقول من المساجين.

لم يستطع وزير العدل والحريات، السيد مصطفى الرميد، على مدى أربع سنوات، إقناع النيابة العامة، الموجودة تحت تصرفه، بمتابعة المتهمين في حالة سراح عوض هذا الكم الكبير من المعتقلين على سبيل الاحتياط.. أي احتياط هذا الذي جعل نائب وكيل الملك في آسفي، مثلا، يتابع الشاب فاضح الزفت المغشوش (مول الزفت) في حالة اعتقال عوض أن يتابعه في حالة سراح، وأن يترك القضاء يقول كلمته؟ هل كان عبد الرحمان المكراوي سيفر إلى السويد مثلا؟ وهل كان سيغتال رئيس جماعة جمعة سحيم مثلا؟ هل كان سيغير معالم «جريمته» وهي موثقة في اليوتيوب؟

أجريت حوارا السنة الماضية مع وزيرة العدل الدانماركية في كوبنهاغن حول العقوبات البديلة، بمناسبة مشروع تعاون مغربي-دانماركي لإنزال هذه العقوبات في البيئة المغربية، وسألت الوزيرة: «من عارض في البداية عندكم في الدانمارك هذه العقوبات؟». ابتسمت الوزيرة وهي تعرف أن جوابها سيفاجئني، ثم قالت: «أكبر المعارضين الذين كانوا ضد العقوبات البديلة قبل 30 سنة هم القضاة». سألت باستغراب: «كيف؟ كنت أظن أن الضحايا وعائلاتهم هم من سيقفون ضد إطلاق سراح لص ووضع ‘‘براسلي’’ في رجله واقتياده إلى بيته عوض رميه في السجن». قالت: «للأسف، عدد من القضاة رأوا في العقوبات البديلة مسا بسلطتهم وهيبتهم ومكانتهم في المجتمع، باعتبارهم رجال ونساء القانون الذين ينصفون الضحايا ويعاقبون المجرمين بإرسالهم إلى السجن، لكن مع المدة ومع التجربة اكتشفوا أن السجن ليس المكان المثالي لتوقيع العقوبة، وأن السجن أحيانا يصير مدرسة للجريمة، وأن السجن يفصل المسجون عن محيطه وعمله وعائلته، وبعد خروجه من السجن يجد صعوبة في الاندماج مرة أخرى، وفي الحصول على عمل جديد، ومن ثم، فإنه يكون معرضا للانحراف مرة ثانية». لما أنهيت الحوار شكرتها مرتين، الأولى على الوقت الذي منحته لهذه المقابلة الصحافية، والثانية لأنها ساعدتني على فهم لماذا تميل النيابة العامة تلقائيا في المغرب إلى متابعة المتهمين في حالة اعتقال، ولماذا لا يتردد جل القضاة في رفض طلبات السراح المؤقت.. إنهم يخافون على سلطتهم لا على القانون.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
%d مدونون معجبون بهذه: