ربورطاجات

زوجات المعتقلين ..سجينات «قفة» ثقيلة ومجتمع لا يرحم!

أفواج من النساء  بمختلف الأعمار تحلقن حول البوابة الرئيسة للسجن المحلي عكاشة، عبر الممر المخصص لذلك، في انتظار تقديم بطاقات الزيارة، واضعات بالقرب منهن أكياسا بلاستيكية من الحجم الكبير، مليئة بما لذ وطاب من «الشهيوات» والفواكه والمعلبات التي يحتاجها من قدمن لزيارته. وجوه يعلوها التعب والحسرة على قريب ضائع وراء أسوار السجن، ونفوس تحسب الدقائق لولوج البوابة الرئيسية.

نساء يتحملن عبء التنقل أسبوعيا إلى السجن لزيارة أزواجهن القابعين في الزنازن، كما يتكبدن عناء الخروج إلى سوق الشغل للعمل في أبسط المهن من أجل تأمين مصاريف العيش، إلا أنهن بالرغم من ذلك لا يسلمن من نظرة المجتمع السلبية التي تحملهن وزر إجرام أزواجهن.

لاح طيفها من بعيد بجسدها النحيل المنهك وهي تحمل الكثير من الأكياس البلاستيكية من الحجم الكبير. كانت بالكاد تستطيع تحريكها بعد أن نزلت من سيارة الأجرة التي أقلتها لبوابة السجن المحلي عكاشة من أجل زيارة زوجها المحكوم عليه بالسجن في قضية اتجار في المخدرات.

«الميناج» من أجل «القفة»

بدت ملامحها متصلبة، تغيب عنها البسمة. طلبت من أحد المتواجدين في المكان مساعدتها على نقل ما تحمله إلى الممر الذي يلج منه الزائرون إلى داخل السجن.

وقفت في الممر واضعة بالقرب منها الأكياس البلاستيكية التي تحمل ما لذ وطاب من شهيوات ومنتوجات معلبة وفواكه متنوعة بكميات كبيرة، بالإضافة إلى بعض الملابس الشتوية.

بدأت المرأة تلقي التحية على بعض النسوة، اللواتي يبدو أنها تعرفت عليهن في عين المكان بحكم زياراتها المتكررة لزوجها، ليدخلن في حديث طويل في انتظار السماح لهن بولوج بوابة السجن.

«راني غير كنتلاوح باش نجيب هاد الشي … تقهرت» تقول الزوجة بكثير من الألم والحسرة، بسبب الظروف التي تعيشها بعد دخول زوجها إلى السجن، لعدم وجود من يعيل أسرتها المكونة من ثلاثة أطفال تتفاوت أعمارهم بين الرابعة عشر سنة والثماني سنوات.

بعد دخول زوجها إلى السجن وجدت المرأة نفسها مضطرة للعمل في البيوت من أجل توفير مصاريف أطفالها، وكذلك توفير « القفة» لزوجها السجين.

مصاريف «القفة» عبء كبير يثقل كاهل الزوجة التي تجد نفسها تحارب على جبهتين مع ضيق ذات اليد، لتوفير متطلبات أطفالها وحياتها اليومية، ومراعاة زوجها في السجن، بعد تخلي الأهل عنها.

الزيارة الواحدة قد تكلف الزوجة ثمانمائة أو ألف درهم، حسب طلبات زوجها السجين، وهو المبلغ الذي يصعب على الزوجة توفيره كل أسبوع، مما يضطرها في بعض الأحيان إلى إخلاف موعد الزيارة والاكتفاء بزيارتين شهريا أو أقل.

تحرص الزوجة على أن تكون «القفة» متنوعة من حيث محتوياتها، وتجمع ما لذ وطاب من المأكولات والمعلبات وعلى رأسها العصائر وعلب السمك والجبن والدجاج واللحم والفواكه وكل ما يمكن أن يحتاجه زوجها وراء أسوار السجن.

تحاول الزوجة توفير كل طلبات زوجها السجين، في الوقت الذي تعيش هي وأطفالها على القليل والضروري من الطعام والملبس، حتى لا تشعر زوجها بأي نقص وهو في السجن.

مسؤولية ثقيلة

في نفس الممر كانت تقف امرأة أخرى في انتظار السماح لها بزيارة زوجها السجين بسبب جريمة سرقة الشركة التي كان يعمل بها. مظاهر التعب والإعياء، كان واضحة عليها وقد وضعت بالقرب منها عددا من الأكياس البلاستيكية المليئة عن آخرها بالمأكولات والمشروبات.

اتخذت من الحاجز الحديدي متكأ لها، تستند عليه بظهرها الذي أنهكه التعب من حمل الأكياس الثقيلة، لمسافة طويلة كونها قادمة من مدينة المحمدية.

طول مدة الاتظار دفعها للانخراط في حديث طويل مع الزائرات، اللواتي يجدن في الانتظار فرصة لتفريغ ما في قلوبهن من هموم ومتاعب الحياة الطارئة.

عائشة التي لم يسبق لها الخروج من البيت لكسب المال، وجدت نفسها فجأة تتحمل مسؤولية أسرة بكاملها بعد سجن زوجها بسبب ارتكابه جريمة سرقة معدات خاصة بالشركة التي كان يعمل بها.

لم يبق أمام عائشة بعد استنزاف النقود التي كانت في حساب زوجها إلا البحث عن عمل من أجل توفير مصاريف بيتها وأبنائها، فلم تجد إلا العمل في الشيء الوحيد الذي تتقنه والعمل في إحدى شركات النظافة، بوساطة من إحدى جاراتها التي تشتغل بها.

عائشة تقضي أيامها بين العمل لتحصيل المال، وبين أشغال البيت والاهتمام بأبنائها دون أن تنسى زوجها السجين، الذي تواظب على زيارته بين الفينة والأخرى.

«القفة» بالنسبة لعائشة كابوس يقلق منامها، بسبب تكلفة محتوياتها، لأنها تحرص على  اقتناء كميات كبيرة من كل شيء، حتى تكفي زوجها طوال الفترة الممتدة بين الزيارتين.

«منخلي ما نجيب في الزيارة راه تقهرت» تقول عائشة معبرة عن نفاد صبرها، وهي تحاول توفير ما لذ وطاب لزوجها، رغم قلة ذات اليد.

تضطر عائشة في بعض الأحيان إلى اقتراض المال لزيارة زوجها «حيت مكتقدرش تجي عندو بايديها خاوية» على حد تعبيرها، لأنها تعرف أن زوجها لا يستطيع تحمل ما يقدم له في السجن.

تحرم عائشة نفسها وأبناءها من الكثير من الأشياء التي هم في أمس الحاجة إليها من أجل شراء ما تحتاجه ل«قفة الزيارة»، والتي تحتاج لمبلغ كبير قد يصل إلى ألف درهم، وهو المبلغ الذي لا تستطيع توفيره في كل زيارة.

مهانة «الخلوة الشرعية»!

تحمل المسؤولية بعد غياب الزوج، وتوفير مصاريف العيش، ليست المشاكل الوحيدة التي تواجه زوجات السجناء، فمنهن من تواجه بالإضافة إلى صعوبة العيش ونظرة المجتمع، التي تحاصرها بسب جريمة لا ذنب لها فيها، شعورا بالإهانة عندما يطلبها زوجها للخلوة الشرعية وراء أسوار السجن

وجدت صعوبة في الحديث، واحمرت وجنتاها من شدة الخجل عندما بادرتها إحدى صديقاتها بالسؤال عن إحساسها وهي ذاهبة إلى السجن لزيارة زوجها المحكوم عليه بعشر سنوات سجنا، وهي تعرف في قرارة نفسها أنها ستقضي اليوم برفقته فيما يسمى بالخلوة الشرعية.

خانتها الكلمات وحاولت التهرب من الإجابة بقولها إن الأمر عادي متهربة من الدخول في أي تفاصيل أخرى، لكن صديقتها كانت تلح عليها لمعرفة تفاصيل اختلائها بزوجها في السجن، والمشاعر التي تخالجها وهي تتوجه رفقة الحارس إلى الغرفة التي ستختلي فيها بزوجها.

استجمعت خديجة شجاعتها وقررت أن تتكلم عن معاناتها وأحاسيسها، فلم يكن الأمر بالهين، لأنها كانت تشعر بالإحراج أولا داخل البيت وهي تحضر نفسها لزيارة زوجها، لأنها تسكن برفقة عائلة زوجها، الذين تحس من خلال نظراتهم لها أنهم يعرفون سبب اهتمامها الزائد بنفسها.

بالرغم من أنها كانت تبذل قصارى جهدها من أجل أن لا يدرك الجميع أن زيارتها لزوجها، لا تعدو زيارة عادية تأخذ إليه فيها كل ما يحتاجه أثناء فترة حبسه، وهذا الأمر كان يشعرها بالانزعاج والإحراج.

خديجة التي تم القبض على زوجها في قضية إرهابية عقب تفجيرات 16 ماي، كانت تواجه مجموعة من المشاكل والعراقيل من طرف حراس السجن الذين كانوا يعاملونها بطريقة سيئة، تمس كرامتها كإنسانة لا ذنب لها فيما اقترفه زوجها.

بالإضافة إلى الإهانات التي كانت تتعرض لها من طرف الحراس، عندما يطلبها زوجها من أجل الخلوة الشرعية، التي تمر في ظروف غير إنسانية، تنتهك حريتهما الزوجية وكرامتهما كزوجين لهما الحق في ممارسة حياتها الحميمية، حتى وإن كانت في السجن.

لم تكن خديجة تجد راحتها فيما تقوم به، إلا أنها لم تكن تستطيع الرفض خوفا من غضب زوجها عليها، وكانت تحاول في الكثير من الأحيان اختلاق الأعذار لرفض الاختلاء بزوجها، لأنها تشعر بالمهانة من الأجواء التي تصاحب هذه العملية.

لم تكن إجراءات الحصول على الموافقة على «الخلوة الشرعية» مرة أو مرتين في الشهر سهلا، فقد كانت تعترضه مجموعة من العراقيل والصعوبات.

ومن أجل الاستفادة من «الخلوة الشرعية» تشترط إدارة السجون أن يكون السجين حسن السلوك ويحترم نظام المؤسسة ولم يسبق له المساس بأمنها، ثم يتقدم بطلب إلى مدير السجن يثبت فيه استمرار العلاقة الزوجية وعدم انفصالها، وعدم إصابة الزوجين بأمراض معدية من خلال الإدلاء بشواهد طبية، وخلو الزوجة أو عدم خلوها من الحمل بخصوص أول زيارة.

كل هذه العقبات زادت من تعقيد الموقف، وتضييق الخناق عليهما خاصة على الزوج السجين، كما أن سخرية الحراس منه واستهزاؤهم بطلبه، كان يشعر وزوجته بالمهانة، بسبب الظروف التي يتم فيها اللقاء.

معاناة مزدوجة

بخطوات متهالكة، كانت تتجه نحو بوابة السجن، غير أن الأكياس الثقيلة التي تحملها بكلتا يديها كانت ترغمها على الوقوف من حين لآخر، وكأنها تحاول استجماع أنفاسها قبل أن تقرر اتخاذ مكان لها على أحد الأرصفة بجوار امرأة اعتادت بيع المناديل الورقية في محيط السجن المحلي عكاشة.

«ماكنبغيش نجي هنا كنتفكر ولدي.. وكيبقى فيا حتى راجلي»، عبارة لم تكن كافية لكي تستوعب المخاطبة الظروف التي حولتها إلى زائرة لسجين، لكن سرعان ما سيتلاشى الغموض بعد أن تشرع في سرد تفاصيل حكايتها المأساوية.

تعيش المرأة التي تخطت عتبة الأربعين من العمر معاناة مزدوجة تتمثل في كون زوجها يقبع خلف قضبان عقابا له على جريمة قتل لم يرتكبها في حق شخص غريب، بل في حق أقرب الناس إليه وهو ابنه الذي لم يكن يتعدى عمره السادسة عشر ربيعا.

كانت الزائرة تتحدث والدموع تنهمر من عينيها عن مدى حب زوجها لأبنائه بمن فيهم الإبن القتيل، الذي قدم من أجله الكثير من التضحيات في سبيل أن يتفوق في مشواره الدراسي، لكنه كان يصطدم بسلوكات الإبن اللامسؤولة.

اعتاد الأب أن يعنف ابنه كلما حصل على درجات متدنية في الامتحانات، أو عاد إلى المنزل في ساعة متأخرة من الليل، معتبرا أن تلك هي الوسيلة المثالية لمواجهة طيش المراهقة، الذي قد ينعكس سلبا على مستقبل الإبن.

غير أن الأب الذي كان يراهن على ذلك الأسلوب التربوي القائم على العنف للعبور بابنه إلى بر الأمان، سيتحول مكرها إلى مجرم، بعد أن يستسلم في لحظة مشؤومة لمشاعر الغضب ويوجه لابنه ضربة قاتلة على مستوى الرأس بواسطة عصا خشبية، بعدما عاد إلى المنزل في حالة سكر.

كانت الصدمتان أقوى من أن يتحملهما قلب المرأة التي اكتوت بنار فقدان الإبن، وسجن الزوج الذي تحول في لمح البصر إلى مجرم بعدما كان الأب والمعيل الوحيد للأسرة.

في ظل هذا الوضع، لم تجد الزوجة من خيار أمامها سوى الخروج إلى ميدان العمل، حيث وجدت في آلة الخياطة التي كانت مجرد أداة تسلية في وجود الزوج إلى مورد رزق، حيث صارت تقوم بخياطة الملابس النسائية، ليس فقط من أجل تلبية متطلبات البيت والأبناء بل كي تقتني أيضا ما يحتاجه الزوج من أطعمة وأدوية، بعدما تدهورت حالته الصحية والنفسية، بسبب الإحساس بالندم الذي يلازمه والحرمان من الحرية ودفء الأسرة.

حرية بطعم السجن

استمرت الزائرات في التقاطر على السجن المحلي عكاشي، في شبه غياب تام للعنصر الرجولي. فتيات ونساء من مختلف الأعمار يحملن الأكياس الكبيرة والقفف التي ملأنها بكميات كبيرة من الفواكه والفطائر والوجبات المطبوخة، بالإضافة إلى المشروبات والأغطية.

عتيقة شابة في الخامسة والعشرين من العمر، قدمت هي الأخرى لزيارة زوجها الذي يقضي عقوبته الحبسية بالسجن المذكور. كانت تحمل حقيبة من الحجم الكبير، قبل أن تقتني بعض الخبز والفطائر المعروضة للبيع بمحيط السجن.

لم تنعم عتيقة بالاستقرار في حياتها الزوجية سوى بضعة أشهر، ليتم  بعدها الزج بزوجها خلف قضبان السجن بتهمتي التزوير وتسليم شيكات بدون رصيد.

تؤكد الزوجة الشابة بأنها لم تكن تعلم شيئا عن أنشطة زوجها المريبة، لكنها بالرغم من خيبة أملها في الشخص الذي اختارته للتقاسم معه حياتها قررت عدم التخلي عنه وانتظار خروجه من السجن لتستأنف حياتها معه. غير أن هذا القرار جر عليها سيلا من المشاكل خاصة مع أسرتها، التي لم تعدد ترى أي مبرر لاستمرار علاقتها بزوجها السجن بما أن سجله العدلي «ولى فيه الوسخ» على حد تعبيرها.

أرغمت عتيقة على ترك بيت الزوجية والاستقرار في منزل أسرتها، التي صارت تفرض عليها حظر تجول، وتصر على منعها من زيارة زوجها، لتجد عتيقة نفسها مضطرة للقيام بتلك المهمة دون علم والديها، حيث أصبحت تختلق الأعذار لتغادر مقر عملها وتذهب إلى السوق لاقتناء احتياجات الزوج وزيارته في السجن.

تؤكد عتيقة أنها حرمت بدورها من طعم الحرية بعدما صار شريك حياتها داخل السجن، فهي تعاني من جهة من رقابة أسرتها، ومن جهة ثانية من النظرة القاسية التي يرمقها بها القريب والبعيد بعد أن صار الجميع على علم بظروف اعتقال زوجها وسجنه.

لم تسلم عتيقة أيضا من مضايقات أسرة زوجها، التي جعلت منها المسؤولة الوحيدة عن سجنه، حيث أرجعوا اتباعه «طريق الحرام» إلى كثرة طلباتها وإصرارها على أن تنعم بحياة الرفاهية رغم الإمكانيات المحدودة للزوج، وهو الاتهام الذي تنفيه عتيقة بشدة، مؤكدة أنها كانت تتقاسم معه أعباء الحياة ولا تطالبه بما يفوق قدرته الإنفاقية.

تتسلح الزوجة المغلوبة على أمرها بالصبر لمواجهة نظرة المجتمع القاسية، في انتظار خروج شريك حياتها، الذي لا تخفي قلقها عليه وخوفها من أن يجد نفسه هو الآخر بعد أن يعانق الحرية في سجن أكبر من الذي يقبع فيه اليوم.

الاحدات المغربية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
%d مدونون معجبون بهذه: