ظاهرة الانتحار تتفشى بالمغرب .. الأسباب مختلفة والنهاية واحدة

لا يكاد يمر أسبوع بإقليمي الجديدة وسيدي بنور حتى يهتز أحد الأحياء السكنية، أو إحدى القرى المتاخمة للمدينتين، على وقع حوادث انتحار تجري بوتيرة متسارعة ومقلقة، يروح ضحيتها أناس من فئات عمرية واجتماعية مختلفة، فيما تبقى الأسباب تافهة أحيانا، وفي الغالب مجهولة، كما أنها تصل، في بعض الفترات، إلى ثلاث محاولات انتحار في الأسبوع الواحد.
وفي الوقت الذي يتمكن أغلب محاولي الانتحار من وضع حد لحياتهم بطرق متنوعة، تنتهي باقي المحاولات بالفشل نتيجة تدخّل أفراد الأسرة أو متطوعين لإزالة الوسيلة المستعملة في العملية، أو الإسراع في نقل الضحية إلى المستشفى لإخضاعه للإسعافات الأولية والمركّزة، فيما تبقى حالات أخرى مجرّد تهديدات بالانتحار، قد تنتهي بعضها بإقدام أصاحبها على تنفيذ تهديداتهم.
القلق العام ورفض “الحُكرة”
عبد اللطيف ركادي، أخصائي في الطب النفسي والعصبي، أشار إلى أن ارتفاع عدد حالات الانتحار غير مرتبط بمنطقة أو بلد معين، وإنما هو ظاهرة عالمية تتزايد بشكل مطّرد، نظرا لارتباطها بعدة جوانب نفسية واجتماعية وعقائدية وغيرها، مستدركا أن من بين الخصائص التي تُميّز فئات عريضة من ساكنة منطقة دكالة، وتكون لها علاقة بالظاهرة، القلق العام، والتخوّف من الغد، وعدم تقبّل “الحكرة” والتفاعل معها بشكل مفرط، كما أن حالات أخرى تكون وراثية.
ومن بين الحالات الأخرى، يضيف ركادي، مرضى مصابون بما يسمّى “اضطراب المزاج ثنائي القطب”، وهو مرض مزمن، يتمثل في الحيوية والنشاط المفرط لدى شخص ما، وفجأة يدخل في اكتئاب عميق مصحوب بأفكار سوداوية، يصبح معه المصاب قليل التواصل وغير قادر على التفاهم والتأقلم مع ما هو خارجي، ويعبّر أحيانا عن الرغبة في وضع حد لحياته برسائل مشفرة أو واضحة، مشيرا إلى أنه في حالة عدم خضوع المعني بالأمر للعلاج في الوقت المناسب، يمكن أن يفكّر جدّيا في الانتحار.
من عوامل الانتحار
وأوضح عبد اللطيف، ضمن تصريحه لهسبريس، أن بعض العائلات تلجأ إلى المستشفى في حالة اضطراب سلوك أحد أفرادها، خاصة أولئك الذين يشكلون خطرا على أنفسهم وعلى الآخرين، ما يمكّن الطبيب من تشخيص الحالة واتخاذ التدابير الصحية من حوار ومراقبة وأدوية، فيما تستهين عائلات أخرى بحالة المكتئب نظرا لهدوئه وسكينته، مقابل مرضى آخرين يلجأ أقاربهم إلى الأضرحة و”السّادات” وبعض العلاجات التقليدية، مؤكّدا على أن عدم تدارك الأمر في الوقت المناسب يسفر عن نتائج مفجعة.
واعتبر المتحدّث الأمراض المزمنة كالانفصام في الشخصية عاملا آخرا يمكن أن يؤدي بصاحبه إلى الانتحار، خاصة إذا بلغ المريض درجة الهذيان والهلوسة، أو سماع أصوات تخاطبه وتدعوه إلى الانتحار من أجل المساهمة في حل مشاكل العائلة، مؤكّدا من جهة أخرى على ضرورة التعامل مع محاولات الانتحار الفاشلة باهتمام كبير كيفما كانت درجتها أو حدّتها، مع ضرورة إشراك الطبيب النفسي في العملية من أجل التشخيص والتتبع.
وعن السبل الكفيلة بالحد من تزايد حالات الانتحار، سواء بمنطقة دكالة أو غيرها، شدّد عبد اللطيف ركادي على ضرورة الاهتمام بالجانب الروحي والديني في حياة المرء، والتواصل بين الأفراد، وممارسة الرياضة، وملء أوقات الفراغ بما هو إيجابي، واجتناب التعاطي لمختلف أنواع المخدرات، حيث أشار إلى أن تناولها يُفقد الإنسانَ الوعي والعقل، وهي أولى الخطوات المؤدية إلى الانتحار بأي شكل من أشكاله.
مقاربة سوسيولوجية للانتحار
أما الباحث السوسيولوجي عياد أبلال، فقد جعل في مقدمة أسباب الانتحار عالميا، التفكك الأسري، والبطالة والفقر، والأمراض النفسية، والإدمان على المخدرات، مشيرا، في تصريح لهسبريس، إلى أن المقاربة السوسيولوجية للظاهرة تبقى ضرورية، باعتبار أن مختلف الاضطرابات النفسية سببها اجتماعي، ومن بينها عدم تمكّن نسق الشخصية من تلبية الحاجيات الأساسية التي تضمن للمرء الاستقرار والتوازن، أو وقوع خلل على مستوى النسق الثقافي أو الاجتماعي.
وأشار أبلال إلى أن الانتحار محرم في الإسلام، ومنبوذ في المجتمع، لكن حين يصل الخلل الوظيفي في أداء مختلف الأنساق إلى مستوى حرج، يصل نسق الفعل إلى رفض المجتمع، ومن ثم إلى رفض ثقافته ومعاييره، أو الشعور، في حالة تفكك الأسرة، بغياب الدفء الأسري والمساندة الوجدانية والحاجيات المعنوية والرمزية التي تجعل الفرد يتمسك بوجوده الذاتي، مؤكّدا أن كل خلل في الأداء النسقي للشخصية يصيب الفرد باضطرابات نفسية وعصبية، قد تجعل مسألة الانتحار لديه جد بسيطة.
وتؤكّد الأرقام والدراسات، بحسب أبلال، على ارتفاع حالات الانتحار ومحاولات الإقدام عليه في صفوف المراهقين من الجنسين، وبشكل أكبر في صفوف الذكور، كما تقل النسب في صفوف المتزوجين في مقابل ارتفاعها عند العزّاب. وبالعودة إلى المراهقين، فالأمر يمكن شرحه بكون أن هذه المرحلة جد حساسة ضمن مراحل نمو الفرد الثقافي والاجتماعي والبيولوجي، وهي مرحلة تعرف بطور بناء الشخصية.
الانتحار ومسؤوليات الأسر
أوضح المتحدّث نفسه أن إصابة الشخصية بخلل ما، يصير لدى صاحبها الانتحار حلّا في حالة اليأس العميق، خاصة وأن طموحات الشباب في تلك المرحلة تكون أكبر من حجم المتطلبات التي يمكن للمجتمع تلبيتها، حيث يحدث ذلك بنسبة أكبر لدى الذكور، في حين إن النسبة تكون أقل في صفوف الإناث نظرا للتربية التي تتلقاها البنت منذ الصغر، حيث تجعل منها أكثر ارتباطًا بالأسرة والدفء العائلي.
وعن مسؤولية الأسرة في تسارع هذه الظاهرة، أوضح عيّاد أبلال أن الأسرة كانت في السابق تلبي بشكل أو بآخر مختلف متطلبات الأطفال، كما تعمل على أن يكون هناك تساند وظيفي للأنساق المكونة لشخصيتهم، قبل أن تنتقل من شكلها النواتي إلى الممتد، حيث تخلّت عن عدد كبير من الأدوار لصالح المدرسة، والشارع، وباقي المؤسسات الثقافية والاجتماعية الأخرى، واكتفت بلعب دور المؤمن للجوء السكني للطفل أو المراهق، ولم تعد قادرة على تحقيق التوازن والأمن العاطفي والوجداني للفرد.