الرايسة فاطمة تبعمرانت:سيدة الأغنية الأمازيغية

اكابريس انفو
بورتريه تحدت اليتم والفقر بشجاعة ناذرة حتى وصلت إلى القمة، تمتاز بصوتها الأجش والجهوري، على غرار الفنانة الأمريكية تريسي شابمان.. الاستماع إلى كلمات أغانيها المتكونة من مزيج من الحكمة والفلسفة، يشبه الاستماع إلى حكيم هندي أو فيلسوف يوناني.. يتعلق الأمر بفنانة سوس الأولى فاطمة تبعمرانت، التي تفتح قلبها لقراء “الجريدة” فلنتابع..
النشأة
تحمل هويتها وقضيتها العادلة في أغانيها، وتحمل على كتفيها، ككل الروايس تقريبا، اسم قبيلتها، ايت بعمران ضواحي سيدي افني، معقل المقاومة المسلحة ضد الاستعمار الاسباني. هي مغنية أمازيغية تتميز بصوتها الجميل وبكلماتها، التي لا تبتعد كثيرا عن المجال الاجتماعي والثقافي للإنسان السوسي. عنيدة لا تتراجع عن مواقفها بسهولة مثل النساء البعمرانيات، صلبة
في مواقفها كصخور جبل “طاموشا” بأيت بعمران.. نجمة الموسيقى الأمازيغية، اسمها الحقيقي فاطمة شاهو، وتعرف بـفاطمة تبعمرانت من قرية إيد ناصر في قبيلة آيت بوبكر المنتمية إلى منطقة آيت بعمران، حيث ولدت في عام 1962. نشأت في إفران الاطلس الصغير وبالتحديد في قرية إيد سالم قبيلة أوشكرا. ولأنها فقدت والدتها وهي صغيرة جدا، فقد عاشت مع والدها محمد في قرية إيد وعزيز، قبيلة إيد لعربا في منطقة لاخصاص.
ذاقت مرارة اليتم في صغرها.. وذاقت قسوة الحياة على يد اقرب الناس إليها.. فقدت والدتها وعمرها لا يتجاوز ثلاث سنوات، عاشت طفولة صعبة، وكبرت قبل الأوان… عاشت في كنف زوجة الأب القاسية، وانتقلت للعيش عند عمتها، حيث كانت تساعدها في أعمال البيت والحقل.. وفي سن مبكرة دائما، ولجت تجربة الزواج التي لم تدم سوى شهرين، وبعدها حملت صفة مطلقة، وهي صفة مرفوضة ومنبوذة داخل الأسرة والمجتمع.. رحلت إلى تيزنيت حيث اشتغلت خادمة في البيوت، لدى عائلة عاملتها باحترام، ومنحت لها فرصة صقل موهبتها في الغناء… وانطلقت في مسار فني، يتطور يوما عن يوم..
بداية المسار الفني
دشنت تجربتها الفنية في غضون سنة 1983 مع الفنان الرايس جامع حميدي، ثم انضمت في وقت لاحق إلى فرقة رايس سعيد أشتوك. ولكن أول بداية رسمية لها كانت مع رايس مولاي محمد بالفقيه، حيث بدأت تسجيل (تنظامت) مع هذا الأخير سنة 1984 وبقيت معه مدة طويلة جدا… تقول تبعمرانت: في ذلك الوقت “كنت أقلد أغاني الرايسة تحيحيت مقورن والرقية الدمسيرية، وفي سنة 1988 انتقلت لمدرسة الحاج محمد الدمسيري وفي سنة 1990 كونت فرقتي الموسيقية واستطعت إحياء عدة تظاهرات فنية نقلت مباشرة على الإذاعة والتلفزة الوطنية، كما ساهمت في عدة سهرات وأمسيات فنية أقامتها جمعيات كجمعية الجامعة الصيفية ونادي رجاء أكادير، كما شاركت في التكريم الذي أقيم للمرحوم عمر واهروش بإذاعة طنجة.
بعد انفصالها عن الرايس بالفقيه، أخذها رايس محمد البنسير تحت جناحه لفترة ثمانية أشهر. على الرغم من أنها مدة يسيرة، إلا أن تبعمرانت تعلمت الكثير من هذه القمة من الموسيقى الأمازيغية. بعد هذه الفترة الصعبة في حياتها، قررت تأسيس شركتها الخاصة لتوظف فيها تجربتها. ففي عام 1991، أنشأت تبعمرانت فرقتها الموسيقية الخاصة، وسرعان ما لقيت نجاجا كبيرا وحققت أشرطتها مبيعات مرتفعة.
نقطة التحول
أظهرت تبعمرانت موهبتها كفنانة وكاتبة كلمات، من خلال المناظرات الشعرية “تنضامين”، التي كانت تجمعها بالرايس مولي محمد بلفقيه. يتعلق الأمر بجدال تتواجه فيه آراء الرجال والنساء بأسلوب ساخر، والذي يتخذ من المفردات، التي تخلق التصادم بين الجنسين داخل المجتمع موضوعا لها. من خلال هذه التجارب، ضمنت فاطمة مكانتها ضمن الروايس لتجرب حظها كمغنية محترفة. بصوتها وعمق كلماتها، تركت بصمتها سريعا متحدية نظرة المجتمع إلى الفنانة، خصوصا وأنها أول امرأة أسست وترأست فرقتها الخاصة، بالإضافة إلى أنها تؤدي أغاني من كلماتها.
بعد ذلك أنجزت شريطا له أهمية رمزية ومعنوية قصوى في مسارها الفني، ويرجع ذلك إلى حضور سؤال الهوية الأمازيغية فيه، وهو السؤال الذي سيلازمها ليشكل أحد الانشغالات المركزية في غنائها، كما أنها تتناول مواضيع شتى كالطبيعة وجمالها والحياة، وأيضا موضوع اليتم لأنها عاشت تجربة اليتم وحرمت من حنان ودفء الأمومة منذ السنة الثالثة من عمرها، لذلك نجدها تغني للأم: الأم كينبوع الحياة والعطف والأم الأمازيغية، هي اللغة والثقافة والهوية، التي ترعرعت في حضنهما. وتؤكد تبعمرانت أنها، ولجت مجال الفن والأغنية الامازيغية تحديدا بعد عشق طفولي شديد، في الوقت الذي لم يكن للمرأة الامازيغية أي شأن يذكر وكانت ممنوعة من المشاركة في جل الميادين الحيوية، كما كان حقل اشتغالها هو تربية الأبناء والاعتناء بالبهائم، وكانت مقصية في كل ما يمت إلى الفكر بصلة، بعد أن تعرضت للاستهزاء في البداية، وتقول تبعمرانت أن لها طريقة خاصة في الغناء و الذي تصفه بالأمازيغية بـ “أمايكينو”.
تحكي الفنانة الأمازيغية عن أن مشاكل غناء المرأة الأمازيغية على وجه الخصوص كثيرة، وتابعت أن البعض ما تزال “تعشعش” في مخيلته مقولة “الفن والثقافة الأمازيغية مجرد فلكلور ولا يجب أن نضع الفن الأمازيغي في هذا الإطار”، إضافة إلى التهميش الذي تعانيه الأغنية الأمازيغية النسوية على مستوى الشاشة الصغيرة أو الكبيرة.
تغنت الرايسة تبعمرانت عن أمها، التي هي من صلبها وأمها الثانية الأمازيغية، التي تمثل ذاتها وهويتها، فضلا عن قضايا أخرى نظير المرأة والتوعية والطبيعة والهوية وتربية الولد والمبادئ الإسلامية وغيرها من المواضيع، التي لها علاقة مباشرة بحياة الإنسان وكينونته ولها تجربة سينمائية في فيلم “تهيا”، وهو أول عمل لها في مجال السينما..
تقوم بنفسها باختيار الموسيقيين عوض الاعتماد على رايس كما جرت العادة. تتناول تبعمرانت في أغانيها مواضيع متنوعة ولكنها تركز على قضايا ثقافية اجتماعية وأخلاقية، تتطرق كذلك إلى ظروف ووضعية المرأة، وتطالب باحترام الحقوق الثقافية واللغوية الامازيغية، النقد الاجتماعي والأخلاقي..
عرفت تبعمرانت كيف تخلق لنفسها نمطا أصيلا، مما أعطي لمسة شخصية لإيقاعاتها وكلماتها ومواضيعها. صوتها الأجش والجهوري، والذي كان يمكن أن يكون عائقا أصبح أحد مميزاتها. استطاعت مجموعتها أن تصبح مدرسة تكون فيها العديد من روايس المستقبل كإيجا تيحيحيت، فاطمة ترايست، مولاي أحمد الداودي، عمر أزمز… والكثير. تمكنت فاطمة أن تطور أسلوبها الخاص، وكرست جهودها للقضية الأمازيغية باقتدار وتفان. وبالإضافة إلى ذلك علمت نفسها بنفسها، حيث بدأت تتعلم القراءة والكتابة وإجراء اتصالات مع المثقفين الأمازيغ. انه لشيء عظيم كما يستحق التشجيع. لا توجد منطقة واحدة عبر التراب الوطني لم تقم بها حفلاتها الموسيقية، وعلاوة على ذلك، شاركت في العديد من الاحتفالات الدولية، التي أقيمت في عدد من المدن الأوروبية: ميلان وباريس، أمستردام، أوترخت، بروكسل…
اعترافا بعطائها الغزير في مجال الغناء الامازيغي، حصلت فاطمة تبعمرانت على عدة جوائز وأوسمة ملكية، فقد حصلت سنة 1994 على جائزة الرباب الفضي بتزنيت، وجائزة الحاج بلعيد، التي تنظمها النقابة المغربية للمهن الموسيقية فرع الجهة الجنوبية بنفس المدينة.. وتعتبر تبعمرانت من بين الفنانين الأوائل، الذين حصلوا على بطاقات الفنان من يد جلالة الملك بالقصر الملكي بفاس بمناسبة عيد العرش لسنة 2008.
رغم العراقيل والصعاب، حفرت فاطمة في الصخر حتى أضحت “ام كلثوم” الأغنية الامازيغية كما قال عنها المرحوم محمد الدمسيري.. تبعمرانت هي الآن أيقونة لكل الأجيال..
نوميديا