
محمد كريم كفال
في غياب أية مواكبة نفسية أو دعم اجتماعي بعد أن يفك الله «سراحهم»، يفضلون من جديد «الرجوع» إلى المكان الذي رهنوا فيه سنوات من أعمارهم. يعودون إليه وقد أصبحوا مجرمين محترفين منفصمين عن عالم ما وراء عفونة «السيلون». هم سجناء عجزوا عن العيش والاندماج في المجتمع بعد قضاء عقوباتهم، وفضلوا صفة «مخلوق سجني» على نعيم الحرية. فهل حقا حولهم فضاء الإصلاح إلى منحرفين؟ .. سؤال تتوضح معالم الجواب عنه مع شهادات سجناء سابقين يروون لنا كيف تحولت بعض المؤسسات السجنية من مراكز للتأديب والتأهيل وإعادة الإدماج إلى «مشاتل» حاضنة للمجرمين؟!
مضى وهو يجر خطاه المتثاقلة، كسنوات عمره المنسية خلف أسوار السجن المدني . يرتدي معطفا باليا يظُن المرء أنه يقيه الصقيع اللافح. وقف على حافة المكان البئيس الذي «يزينه» وعاء القاذروات بلونه الأخضر الداكن. أسند ظهره للحائط الذي شوهت لونه الزاهي «شخبطات» بريئة لأطفال الحي الصغير. فجأة انتبه لظلال الغرباء، وهم يدلفون طوار الزقاق. ألقوا عليه التحية : «آفين آشطاطو .. راك مضوي درب الكبير». تبيّن قسمات وجوههم على الضوء الخافت المنبعث من ورائه. تبادل معهم عبارات هامسة، ثم سلموه «الأمانة»، بينما تلقفوا بضاعتهم من يده في رمشة عين.
«واش تسحاب دخول لحمام بحال خروجو»!
اكتفى «شطاطو» برد تحية جافة، وحاول التملص من تبادل حديث صريح. معرفة سابقة بـ «عساس» الدرب، سهلت مأمورية استدراجه للحوار عن «مجتمع» السجناء داخل مؤسسات عقابية تتحدى العَود بشعار «الإصلاح والتأهيل أولا وأخيرا».
النتيجة عبارة عن شهادات صادمة عن حوادث مأساوية وقصص حيوات غرائبية عن آثمين دخلوا السجن لنيل نصيبهم من العقاب، لينغمسوا في أتون الجريمة. شهادات عن سجناء يتاجرون في المخدرات، ويبيعون عبوات «السيلسيون»، ويتحرشون بالقاصرين. بعضهم يرتكبون جرائم مختلفة قد تصل حد القتل العمد فقط ليحتفظوا بمكان لهم داخل زنازن «دافئة» تقيهم قسوة الحياة خارج بوابات السجون.
استهل «شطاطو» حديثه بذكرياته الدفينة عن يوميات السجن. تحدث عن قضائه لما يربو عن «ثلث عمره» في غياهب السجون. عقوبات سجنية بلغت في مجموعها 18 سنة على مدد متفاوتة.
التقطت مسامعه عبارة «العَود». لم يستطع استيعاب معناها. اختزلها في جملة جعلت محاوره و«عساس الدرب»، يدخلان في موجة ضحك. «آه العود .. ياك التيرسي حتا هو كيقطعو تيكيات ديالو في الحبس!».
بعد استيضاح الأمر. استفاض «شطاطو» في ذكر حكايات يتجاوز بعضها حدود الخيال. منها حكاية شاب عشريني دخل السجن بسبب تهم «حيازة المخدرات والسرقة الموصوفة». قضى عقوبته، ثم خرج من السجن. بعد مرور شهرين رجع إليه بتهمة «القتل غير العمد في حق الأصول». كان الشاب تحت تأثير «سمطة» من حبات القرقوبي. أنبته والدته بشدة، فدفعها من على درج المنزل. أصيبت بحالة غيبوبة تامة. بعد عشرة أيام توفيت، وعاد هو إلى «عشيرة» المجرمين.
حكاية أخرى تستأثر بالاهتمام. إنها حكاية «باطما». شاب غيواني يعشق حد الجنون المرحوم العربي باطما. دخل «باطما» السجن بعد تورطه في شراء مسروقات متحصلة من جناية. حاول التأقلم مع وضعه الجديد، والحفاظ على نقائه وطُهره الأخلاقي.
بعد مدة، وجد نفسه مُرغما على التعامل مع مجرمين مجربين. أصبح بضغط منهم مُجبرا على تكديس بعض قطع «الحشيش» داخل ملابسه الداخلية. خدمات كان يتلقى مقابلها «الحماية» ووجبات غذائية محترمة. قضى «باطما» مدة عقوبته، ثم خرج من أجل تحقيق رغبته في الاندماج في سوق العمل. لكن صحيفة سوابقه العدلية شكلت عائقا أمام حلمه الصغير. ظل لشهور وهو يعيش عالة على أسرته. ذات يوم تفاجأ باتصال هاتفي من مروج مشهور له سابق معرفة به حينما كان نزيلا بسجن عكاشة. لبّى الدعوة ووجد أمامه فرصة عمل فريدة. بعد تردد وافق على مضض. استمر لعدة أسابيع في عمله الجديد إلى أن ضبطته عناصر الأمن بمنطقة درب غلف بالبيضاء، متلبسا بحيازة كيلوغرام من مخدر الشيرا.
«عاود في السجن ممارسة نشاطه بتعاون كامل مع المروجين، حيث استسلم للأعراف المتبعة بين عُتاة المجرمين داخل السجون .. كان كيسحاب بحال دخول لحمام بحال خروجو .. راه الحبس ولاف»، يقول «شطاطو» بتندر عن الشاب المعروف باستشهاده بالحكمة الغيوانية «مْطْعُونِينْ فْ الظْهْرْ ومَا ضَحِّينَا بْ لْعْمْرْ».
«بزناسة» و«مثليون» يفضلون «المكوث» بالسجون!
كثيرا مايدفع منطق الأرقام المقدمة على هامش ندوات الجمعيات الحقوقية، والصور الوردية عن وضعية سجون المملكة من طرف الجهات الوصية إلى إقامة ميزان المقارنة بحثا عن أجوبة مقنعة. رحلة تنتهي غالبا بالوقوف على تجارب مريرة من خلال شهادات سجناء سابقين. شهادات تُظهر أن بعض المؤسسات السجنية «انفلتت» من رقابة القانون، وأصبحت عبارة عن «ورشات» و «مختبرات» لصناعة الجريمة.
عماد سجين سابق، شهور قليلة تفصله عن بداية عقده الرابع. قضى أكثر من سبعة سنوات في السجن على مدد متفاوتة. عن هذه السنوات «العجاف» كما يسميها يتحدث السجين السابق بالمركب السجني عكاشة عن وجود «ربيع حقيقي» لتجارة المخدرات والجنس داخله، خاصة خلال فترات عقوباته الحبسية. «شيء طبيعي أنه حينما تُتاح لك الفرصة المواتية لمزاولة نشاط ترويج المخدرات التقليدية بكل أصنافها، وبرعاية جهات مسؤولة ونافذة بالسجن، ستحن إلى الرجوع إليه بعيدا عن الرقابة المفروضة على التجار والبزناسة خارجا»، يقول عماد.
ليس فقط المخدرات وحدها من تُغري السجناء السابقين بالعودة إلى السجن. هناك أيضا زنازن الـ«خمسة نجوم» حيث يشيع «ريع» المخدرات و الجنس واحتكار المواد الغذائية والهواتف المحمولة والتعبئات الهاتفية. «كلشي على عينيك .. غير ميزي والسلام» يروي عماد بنبرة يغلب عليها طابع السخرية، ويستطرد «أنا دخلت الحبس وماشي في النية ديالي نرجع ليه، ولكن مني لقيت راسي محمي فيه حسن من برا .. رجعت ليه 3 ديال المرات». تصريح استفز في متلقيه السؤال الآتي .. علاش؟. «في الحبس درت الراسمال لي مكنتش نحلم بيه. دابا أنا خدام بيه بخير!»، يقول عماد بنبرة مشحونة باستغراب لكنها أقرب إلى وصف يوميات سجن «عكاشة» ذات أيام؟!
شهادة عماد لم تكن وحيدة. بنفس النبرة الساخرة، يرى «افريحة» وهو سجين سابق أن الحديث عن زوار عكاشة اللذين جعلوا منه مقر إقامة دائمة، هو حديث يتجاوز حدود الخيال، خاصة حينما تتم بعض الممارسات اللأخلاقية تحت أنظار القانون وبتواطؤ مع بعض ممن يمثلونه.
«دوزت في الحبس أربعة سنوات، تخيل بعض المثليين كيرجعوا لحبس، باش يدبرو على راسهم، كيربحو فالداخل كثر من برا .. فكيفاش بغيتي ميرجعوش ليه .. راهم مدبرين على الصرف ليهم ولوحدين آخرين ؟!»، يقول افريحة عن واقع سجن زارته لجنة برلمانية صُدمت لـ «الأهوال» التي عاينتها فيه. سجن يمثل للمجرمين «ملاذا آمنا»، وللموظفين الصغار مصدرا لتحسين دخلهم الهزيل، بينما يُمثل للمسؤولين ميزانا لقياس نجاعة السياسة الجنائية، وبعض المآرب الآخرى؟!
مرتبط
زر الذهاب إلى الأعلى